ابتدأت هذه السنة بحرب شبابية مثيرة بين مغنيي الراپ المغاربة تحت ما يُعرف ب»الكلاش»، وقد احتلت أغانيهم «الطاندانس» على قناة اليوتيوب، فتصدر المغني «ديزي دروس» مراتب متقدمة حتى في الدول الأوروبية بأغنيته «المتنبي»، استئناسا بهجاء المتنبي في شكل الراپ. تسجيل نسب عالية من المشاهدة على مواقع التواصل الاجتماعي ليس غريبا، لأن الجيل الجديد متتبع مخلص لمغنيي الراپ، هذا النوع الموسيقي الذي ارتبط تاريخيا بالتمرد والجرأة والاحتجاج. أغنية «ديزي دروس» لم تكن فقط، انتقادا لغريمه «البيگ»، بل حملت رسائل قوية تتحدث عن بنية فنية متحكم فيها بما سمّاه ب «التبلحيس» وترديد كلمة «عاش». فكلما كنت مقربا من الدوائر العليا الضيقة، كلما ازدادت فرص النجاح أكثر. وكلما كنت منتقدا وحرا، كلما كُنتَ من المستبعدين، ومن المغضوب عليكَ. وهذه الحقيقة للأسف، هي المعادلة السائدة في كل المجالات حتى السياسية والاقتصادية منها في مغربنا. تأتي هذه الأحداث مباشرة بعدما حققته أغنية «في بلادي ظلموني» من جدل، وصل حد محاولة منع قائد «الكورفا سود»، من أدائها في المدرّجات، بدعوى أنها تحتوي على كلمات تحريضية. ومسيرة «الغضب» لجماهير المغرب التطواني احتجاجا على مقتل الشابة «حياة»، وهي تحاول الوصول إلى الضفة الأخرى. دون أن ننسى تضامن الجماهير الرجاوية مع معتقلي حَراك الريف، الذين وصلت الأحكام في حقهم إلى عشرين سنة على صفحتهم «الفيسبوكية»، التي تساند وتدعم «حرية ناصر الزفزافي». هذه الأشكال التعبيرية الشبابية تدخل تحت مسوغ ما يُسمى بالاحتجاج على «الوضع القائم»، هذا الوضع الذي عبر عنه نشيد الحرية المشهور للوداديين ب»الطغيان فات الحدود… بالعصا ضربونا/الحرية بابها مسدود… في المدرج خنقونا». هذه الأشكال الاحتجاجية تندرج في ديناميات الحركات الاجتماعية المعبر عنها ب»الراپ»، «السلام»، «فنون الشارع»، «الإلتراس»، «20 فبراير»، «حراك الريف»، «احتجاجات السكن بالدار البيضاء، احتجاجات جرادة – زاكورة – ورزازات…» وبالرغم من اختلافها، ومجالها، وسقفها المطلبي إلا أنها تُجمِع على أن القمع والفقر والحرمان استفحل، وأن كل هذه التراكمات لا بد أن تحقق تحولها النوعي وتنتصر لحقها في التغيير نحو الحرية واحترام الكرامة. هذا الجيل الذي عاصر عالم الإرهاب، واستباحة العنف واغتصاب الثروات، يفهم جيدا ما يحيط به، ينتقده بخطابه الخاص، ويبدع أشكالا جديدة للتمرد عليه. فحوّل الفضاءات العمومية إلى منابر للاحتجاج، رغم كل محاولات القمع والتشويه والاحتواء. هذا الاحتجاج المتنوع، المتعدد والمتناقض أحيانا، يتجه في مجمله إلى الخروج من سواد «الحُكرة» إلى ألوان العدل والحرية. فإلى جانب رفض الدولة لهذه الأشكال، تعجز النخب بدورها عن التعامل مع هذا النوع من الشباب خطابا وممارسة، بل وأحيانا تحتقره وكأنها مالكة الحقيقة والفهم، وما دونها جهلة وقاصرون. إن كل التحاليل والوقائع تؤكد اليوم، على أن ديناميات التغيير لا يمكن أن تستقيم دون هؤلاء الشباب لأنهم أصبحوا الصوت المسموع والمؤثر لدى أغلب الفئات الشعبية. كما أن قيم المجتمع ومعانيه تتغير بسرعة، وكل الكلاسيكيات تنهار على جميع المستويات من فن، وثقافة، واقتصاد وسياسة. إن البنية المجتمعية المعاصرة تتحول وتصنع بدائلها التنظيمية والمطلبية والمفاهيمية، وهذا ليس حكرا فقط، على المغرب، بل هو معطى عولمي مستمر ومركب. إن محاولة تغيير المجتمع لا تتحقق بتقليد الرموز والبكاء على التاريخ، إنها معادلة تستوجب فهم دروس الماضي وقراءة الواقع الحاضر، وإبداع ما يمكن أن يغير المستقبل دون تقديس، ودون إنكار لتراكمات عقود طويلة من النضال. المتمرد القادر على بناء الغد، هو القادر على تقاسم وفهم ما يشعر ويفكر به الناس من حوله، ويبني معهم دون تعال، ودون تبعية، غدا يضمن الكرامة والحرية للجميع. كخلاصة، نحن نراكم تحولات جذرية تجاوزت كل تحليلاتنا الجامدة والمتكلسة، وأشكال تعبيراتنا التقليدية؛ تحولات يمكن أن تكون مضامينها سلبية أو إيجابية، لكنها هي من ستصنع عالم الغد. إن عجزنا على استيعابها، فهمها ومنحها الحرية اللازمة المبدعة والتربية القيمية الجيدة، سيجعلنا أمام مستقبل لا نعلم لحد الآن، إن كان من سيتحكم فيه ينتصر لجانب الإنسان فينا، أم لدونه.