يطرح وجود حزب العدالة والتنمية في الحكومة سؤال النضال الديمقراطي من داخل المؤسسات، من طرف تنظيم يشهر مرجعيته الدينية، قادما من أصول حركية كانت إلى عهد قريب تؤمن ب»الحاكمية» بديلا عما كانت تدعوه بجاهلية القرن العشرين. مرت مياه كثيرة تحت الجسر، وأفضت تراكمات ذاتية وموضوعية لتشييد مراجعات لم تكن سهلة، مما يقتضي من الباحث والخصم، كذلك، إحداث قطيعة مع «الباراديغم» التحليلي، الذي كان يختصر حركات الإسلام السياسي في منتج إمبريالي بتواطئ مع الأنظمة الرجعية لمحاصرة المد التقدمي.. اصطدم إسلاميون بأنظمة تبعية، وساهم إخوانهم في حكومات انقلابات عسكرية.. كان إسلاميون في الجبهات المتقدمة لمقاومة العدوانين الصهيوني والغربي، وأفتى آخرون منهم بجواز الاستعانة بالأجنبي لمقاتلة المسلم الرافض لبيعة ولي الأمر.. وبالتالي، أضحينا أمام تجارب مختلفة من حيث الاجتهادات والتموقعات، مما يجعل الدفع بأن ليس في القنافذ أملس مجرد تغطية عن رفض رؤية الواقع، كما هو في حركيته وتحولاته. هل يعني هذا أن حركات الإسلام السياسي تلعب اليوم، دورا في أفق التحول الديمقراطي؟ في اعتقادي أن الجواب الحدي هو سقوط في الإرادوية، ذلك أن التحول الديمقراطي لا تحكمه رغبات الحاكم، أو متمنيات الأحزاب والنخب، هو حاصل تحولات في المجتمع والوعي وموازين القوى وصراع المصالح. وللأسف، فالاستماتة في الدفاع عن الديمقراطية رهينة في حالتنا بالمنفعة أكثر من المبدئية، يختصرها الإسلاميون في صناديق الاقتراع مجردة عن قيمة الاختلاف باعتبارها ضامنة لحقوق الأقليات، فيما قد يغض بعض الحداثيين النظر عن تجاوزات السلطة في احترام حكم الصناديق، إذا كان ذلك لزاما لمحاصرة المد الظلامي في زعمها. ليس ثمة اختلاف «ماهوي» بين النظام وبين البيجيدي في تصور جوهر الحكم، فكلاهما ينهلان من الأحكام السلطانية تصريحا أو تلميحا، والتي لم تخرج عن مقولة «الإمامة العظمى»، وليس مصادفة أن يعلن بنكيران بصرامة عن رفض «الملكية البرلمانية»، في تزامن مع خرجة لوزير الأوقاف تحدث فيها عن البيعة الشرعية لولي الأمر، باعتباره الإمام الأكبر المؤتمن على شؤون الدين والدنيا، مما يجعل إمارة المؤمنين متعالية على النص الدستوري لا منبثقة عنه.. لذلك يبدي النظام انزعاجا من بعض الأصوات داخل البيجيدي التي تتجرأ على هذا الاتفاق الضمني في تصور ماهية الحكم، وإذا أفضى تطور في المستقبل نحو هيمنة هذا الاتجاه داخل الحزب، سنكون أمام هرم مقلوب لما أفضت إليه تجارب الأحزاب المنبثقة من شرعية مجتمعية، فإذا كان حزب الاستقلال انتقل من الرغبة في تقاسم السلطة بين القصر والحركة الوطنية إلى القبول بالملكية التنفيذية، وإذا كان الاتحاد الاشتراكي بعد تخلصه من الجناح الثوري،عرف تحولات من استراتيجية النضال الديمقراطي نحو التناوب التوافقي، ثم معارضة جلالة الملك كما قال لشكر، قبل أن يصير حزبا لا يختلف عن أحزاب الإدارة، فسيكون لافتا أن ينتقل البيجيدي من الدفاع عن الملكية التنفيذية إلى المناداة بالملكية البرلمانية. من هنا نفهم خرجات بنكيران المكرورة حول الملكية، وأدوارها، ووجوب توقيرها، والقبول بطابعها التنفيذي، إذ يرى في أي نزوع نحو «الملكية البرلمانية» تهديدا للتوافقات الهشة بين القصر وإسلاميي المؤسسات. لا يستهدف البيجيدي الوصول إلى السلطة، كما هو متعارف عليه في وظائف الأحزاب السياسية، بل فقط، العمل إلى جانب السلطان، وفق تحديث لميكانيزم تقليدي وهو «البطانة الصالحة»، وإذا اقتضت الظروف الخروج إلى المعارضة، فهي معارضة محكومة بنسق «النصيحة لأولي الأمر»، كما أن الحزب لا يهدد رجال الأعمال ولا الاستثمارات الأجنبية، بل يمكن القول إنه منسجم مع النيوليبرالية الاقتصادية أكثر من «ليبراليي» الريع. وطبعا، لا يشكل وصول العدالة والتنمية إلى الحكومة مخاوف لدى الغرب، وأمريكا خصوصا، فالحزب أظهر براغماتية كبيرة في التعامل مع التطبيع الثقافي والفني والاقتصادي مع إسرائيل بغض البصر وصم الأذن، وتنازل للقصر فيما يخص السياسة الخارجية، ولم يعترض على مساهمة المغرب في تدخلات خارجية في الصحراء الكبرى كما في الشرق الأوسط تتناغم مع إملاءات ومصالح الدول الكبرى. (يتبع) في الأسبوع المقبل حديث عن سوء الفهم الذي يظهر أحيانا بين «الإستبلشمنت» والبيجيدي.