يبدو أننا بدأنا نؤدي ثمن تراجع السياسة وإضعاف المؤسسات، وفتحنا الباب لظاهرة اللوبيات لتفرض منطقها الخاص، وتحقق ما تريده دون اعتبار لمصالح البلاد والعباد. هناك ثلاثة أمثلة صارخة تظهر إلى أي حد أصبحت هذه اللوبيات تتحكم في القرار؛ لوبي شركات المحروقات، ولوبي شركات المشروبات، ولوبي المصحات. بخصوص لوبي المحروقات، المكون من شركات محدودة مشكوك في تنافسيتها، فهو مصر، منذ قرار الحكومة إلغاء الدعم وتحرير السوق، على تحقيق أرباح خيالية على حساب المستهلك. خلال سنتي 2016 و2017، ضاعف هامش الربح، باعتراف حكومي، وبإقرار من لجنة برلمانية استطلاعية (كان يربح ما بين 60 و70 سنتيما في اللتر، وأصبح يربح درهمين وأكثر). وهو لوبي يقاوم اليوم تسقيف الأسعار، كما يقاوم دخول شركات جديدة لسوق المنافسة، ويطالب برفع هامش الربح، رغم أنه عمليا ضاعف هذا الهامش. وعندما انخفضت الأسعار الدولية حديثا، انزعج هذا اللوبي من الوزير لحسن الداودي، الذي أعلن تقديرات الوزارة لحجم التخفيض المنتظر في المحروقات في المحطات. وإلى حد الآن، مازالت الأسعار الدولية في انخفاض، ولا يجد المواطن الانعكاس الحقيقي في المحطات، في غياب قرارات حكومية حاسمة وتدخل من مجلس المنافسة. أما لوبي شركات المشروبات الغازية، فإنه توعد وهدد وضغط لدفع البرلمان إلى التراجع عن «ضريبة إضافية» على القيمة المضافة، فرضت على استعمال كميات من مادة السكر في المشروبات. أقر مجلس النواب هذا التعديل في القانون المالي 2019، لأهداف صحية، نظرا إلى ما يسببه السكر من أمراض، حيث كلما ارتفعت نسبة السكر في المشروب، زادت قيمة الضريبة، وبما أن المستهلك في النهاية هو الذي سيؤدي الضريبة، وليس الشركة، فقد كان الهدف هو دفع الشركات إلى التقليل من مادة السكر التي تسبب الكثير من الأمراض، وتغيير سلوك المستهلك الذي سيلاحظ ارتفاع ثمن المشروب السكري، وهذا إجراء طبق في عدد من الدول. لكننا تابعنا كيف تحركت هذه الشركات في ردهات مجلسي البرلمان، وهددت بتسريح العمال، بل إنها أرسلت عمالها إلى ممثلي النقابات في مجلس المستشارين، للتحذير من أن «الشغيلة مهددة بسبب هذه الضريبة». والنتيجة كانت هي خضوع البرلمان للضغط، وحذفه ضريبة كانت في حدود 14 سنتيما في اللتر الذي يستعمل كميات محددة من السكر، وجرى الإبقاء على زيادة ضعيفة جدا في الضريبة على الاستهلاك. الأدهى أن شركات المشروبات الغازية وشركات الحلويات مازالت تستفيد من دعم مادة السكر، بما يتراوح ما بين 80 و130 مليون درهم سنويا، وقد وعد وزير المالية بنشعبون باسترجاع الدعم، لكنه لم يحدد كيف. اللوبي الثالث، هو لوبي المصحات والأطباء. هؤلاء يحققون أرباحا لا تخفى على أحد، ولديهم مشاكل مع إدارة الضرائب التي راجعت مداخيلهم في الآونة الأخيرة، لكنهم لجؤوا إلى أسلوب الضغط، وانتزعوا من إدارة الضرائب اتفاقا يعفيهم من المحاسبة الضريبية ما بين 2014 و2017، شريطة أن يصرحوا إراديا بمداخيلهم، ويخضعوا لأشطر محددة من الضريبة حسب الدخل. قد يرى البعض أن هذه صيغة ستمكن إدارة الضرائب من جمع مبالغ أكبر مما كانت تجمعه من هذا القطاع، خاصة أن الأشطر المحددة رفعت حوالي ثلاث إلى أربع مرات قيمة الأداءات الضريبية للأطباء، لكن بعض الأطباء الذين يؤدون ضرائبهم بانتظام، يعتبرون أن اتفاق مديرية الضرائب هو في صالح من كانوا يتهربون من أداء الضريبة عدة سنوات، لأنهم سيحصلون على إبراء لأربع سنوات. هكذا تتحرك اللوبيات لتدافع عن مصالحها. وهذا طبيعي ويقع في كل دول العالم، لكن غير الطبيعي هو إضعاف دور المؤسسات، خاصة البرلمان والحكومة، وتغييب مصلحة المواطن المغلوب على أمره، وهو أمر لا تخفى خطورته في المستقبل.