أعلن المغرب عن فشل نموذجه التنموي، وأطلق دينامية للتفكير في نموذج جديد، لا ندري منهجيتها ونوع أسئلتها. البعض ينشغل بسؤال الجهة المسؤولة عن الفشل. وكيف تم ذلك؟ وهو سؤال مهم وضروري، يترجم مضمونا دستوريا يربط المسؤولية بالمحاسبة، لكن مخرجات النقاش بهذا المنظور ستكون معروفة سلفا: “الإصلاح السياسي والدستوري”، وهو بالمناسبة يرتبط بتعديل موازين القوى، أكثر منه مجرد التفاعل مع حاجة الدولة في تعديل نموذج أو حتى ابتكاره. أمس، كان الفاعل السياسي يثني على النموذج، ويبرر به مناعة الاقتصاد الوطني في وجه التحديات، ويعرفه بكونه “عناصر استحدثت لتجاوز أعطاب نموذج تنموي سابق، كان يرهن اقتصاد البلاد بعوامل الطبيعة أو بتقلبات أسعار النفط أو بوضعية الشركاء الاقتصاديين”. اعتمد النموذج التنموي المتجاوز للسابق على “مخطط أخضر”، يحاول الانفكاك من إكراه الجفاف، و”مخطط أزرق” “يعصرن” القطاع لتثمين الموارد، ومخطط “تسريع صناعي”، يقلل من رهن الاقتصاد للناتج الفلاحي، وسياحة، تخلق الفارق، وتنقيب عن مصادر الطاقة، مع بناء قاعدة صلبة لطاقات متجددة، لامتصاص نزيف احتياطي العملة الصعبة، وأوراش كبرى، تخلق النمو، وتخلق الثروة وفرص الشغل. هل يعني النموذج التنموي الجديد مراجعة هذه الخيارات. بالتأكيد: لا، فالكل لايزال يؤمن بفعاليتها. المشكلة لخصها الملك مرة بسؤال أين الثروة؟ أو بسؤال “الرأسمال الرمزي”؟ ومرة، بنقد البرامج الاجتماعية وعدم وصول أثرها إلى المستهدفين، ومرة أخرى بطرح سؤال تأهيل الموارد البشرية وإعادة توجيهها وتكوينها، أي إصلاح منظومة التربية والتكوين. والواقع، أن الإشكالات التي تواترت في خطاب الدولة والفاعلين أنها تبرر إعلان فشل النموذج التنموي، ليس لها أي علاقة بالخيارات التي تم بها تجاوز أعطاب النموذج السابق، وإنما ترتبط بالفشل في معالجة المسألة الاجتماعية الآخذة في التعقيد والحساسية. فكرتان تم طرحهما بهذا الصدد، وهما، ربما، المقصودتان بفشل النموذج التنموي: الأولى، انطلقت من فرضية “إطلاق أوراش كبرى”، أو “إطلاق دينامية كبيرة تجاه إفريقيا”، يكون من نتائجها إحداث طفرة كبيرة في النمو، تنعكس بشكل سريع وإيجابي على كل طبقات المجتمع، بما في ذلك الطبقات الدنيا، والثانية، طرحت لتجاوز مآل تجارب دول الربيع العربي، وركزت على التوازن الماكرو اقتصادي، وبناء قاعدة صلبة لاقتصاد متحرر بتشجيع المقاولات، مع تركيز على الفئات الدنيا، فيما يعرف ب”فلسفة التوازن الاجتماعي” بين الذين يملكون كل شيء، والذين لا يملكون أي شيء، وهي فكرة الحكومة السابقة، وتحاول الحكومة الحالية استئنافها. تبدو مشكلة المقاربة الأولى – الأقرب إلى منطق المديرين العامين للشركات الكبرى- أنها، في سبيل المشاريع الكبرى، لا تعبأ بمتطلبات التوازن الماكرو اقتصادي، لأن “الآتي سيجب الخلل”، فيما عطب الثانية – الأقرب إلى مقاربة السياسيين المراعين لمتطلبات السلم الاجتماعي – أنها في ظل شروط الممارسة الاقتصادية الاحتكارية، تبدو محدودة الأثر، ومنتجة للتناقض في التعامل مع الفئات الغنية التي تحفز باسم تشجيع الاستثمار، والفئات المتوسطة التي يطلب منها “الصبر” حتى مكافأة الفئات الدنيا. لحظة التفكير الجماعي في نموذج جديد تستدعي طرح سؤال الانسجام بين هاتين المقاربتين؟ وما إذا كان الفشل يرجع إلى تعايش مقاربتين متناقضتين في المضمون والأدوات؟ يمكن أن يفهم من هذه الخلاصة أننا انتهينا من حيث بدأنا، أي إلى الإصلاح السياسي والدستوري، لكن ليس ذلك المقصود، فالجوهري في تقديري، أن يتم لفت الانتباه إلى أن المدخل لمعالجة هذا الموضوع، لا ينبغي أن ينطلق من فرضية “ضرورة استمرار التعايش بين المقاربتين”، أو فرضية أن “المقاربة صحيحة، وأن ما ينقصها هو فقط، بعض المكملات التي كانت غائبة”، مثل تأهيل الموارد البشرية، وإعادة توجيه مسالك التعليم والتكوين وشعبه، أو إعادة بلورة البرامج الاجتماعية وتنسيقها لضمان نجاعتها. التفكير في النموذج التنموي، بشكل مستقل ومبدع وبرؤية استشرافية، يتطلب إعادة النظر في كل الفرضيات، ولو تطلب الأمر، الاشتباك مع إشكالية الإصلاح السياسي والدستوري، مادام الهدف هو نمو اقتصادي دال، وثروة تصل إلى الجميع، وتوازن اجتماعي يجنب المغرب الاهتزازات التي تمس استقراره السياسي والاجتماعي.