في الوقت الذي تبدو فيه الشعوب العربية وكأنها استسلمت لليأس، بسبب ما يقع في ليبيا واليمن وسوريا من فوضى وعنف، خرجت علينا مجلة «فورين أفيرز»، في عددها لشهري نونبر/دجنبر 2018، تقول إن انتفاضات عربية مقبلة، ستكون أعتى وأقوى، إن لم يتحرك الحكام لإبرام صفقات جديدة مع مواطنيهم. كاتب المقالة دبلوماسي أردني ووزير خارجية سابق وأكاديمي مرموق، هو مروان المعشر، صاحب كتاب «اليقظة العربية الثانية». ويرى المعشر أن العالم العربي عرف انتفاضتين خلال السنوات السبع الماضية؛ الأولى كانت سنة 2011 في ما سمي بالربيع العربي، الذي زعزع عروش الحكام المستبدين، وأحيى الآمال في عصر جديد من الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن، باستثناء تونس، فقد جرى التفاف على تلك الانتفاضات، أو انتهت إلى اضطرابات أو حروب أهلية. أما العاصفة الثانية فقد كانت نتيجة انخفاض حاد في أسعار النفط سنة 2014، ما جعل الأنظمة الخليجية غير قادرة على تمويل ميزانياتها المنتفخة، وشراء النخب، وإجراء إصلاحات. وقد تبدو بعض الأنظمة وكأنها نجت من العاصفتين -يقول المعشر- لكن هناك المزيد من الاضطرابات الآتية في المستقبل، ما لم يسارع الحكام إلى إبرام عقد اجتماعي جديد، أساسه الديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية. تبدو تحليلات المعشر مقنعة، ويتقاسمها معه العديد من الكتاب والمحللين المستقلين عن تأثير السلطة والمال. ففي المغرب، مثلا، لا يمكن إنكار أن الدولة قامت ببعض الإصلاحات عقب الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي، لكن الذي حدث عقب ذلك أنه جرى الالتفاف على الإصلاحات الدستورية والمؤسساتية، فيما وقع تحوير الإصلاحات الاقتصادية من لدن النظام لكي يحافظ على سلطاته. ففي غياب الشفافية والمراقبة والمحاسبة، ذهبت نتائج تلك الإصلاحات إلى جيب النخبة الحليفة للنظام بدل عامة المواطنين، وشرع الناس في الربط بين الإصلاحات الجزئية التي جرت وثراء نخبة معينة من المحيطين بمركز السلطة. لذلك، لا غرابة أن تتسع دائرة القلق واليأس وسط المواطنين؛ ففي سنة 2011 منح الشارع، الذي تزعمته الطبقة الوسطى أساسا، فرصة للدولة لكي تصلح نفسها، وتعيد بناء توازنات جديدة، لكن يبدو أن تلك الفرصة أهدِرت، وظهر منذ 2015 أن الحسابات التكتيكية لدى السلطة انتصرت على ما هو استراتيجي وضروري، ما أدى إلى الشعور بالإحباط وسط الذين خرجوا للاحتجاج السلمي في 2011، وبلغ الإحباط منتهاه بفرض حالة «بلوكاج» سياسي لنسف نتائج انتخابات 7 أكتوبر 2016، لتبدأ موجة احتجاجات ثانية مستمرة حتى الآن بأشكال مختلفة (حملة المقاطعة، الهجرة الجماعية، حملات الفايسبوك…)، سمتها الرئيسة أن من يقودها هم الغاضبون والمهمشون والفقراء في المناطق البعيدة عن المركز، مثل الريف وجرادة وزاكورة، ويمكن أن تنتقل بسرعة إلى المركز إذا توفرت ظروف مواتية، كتلك التي توفرت سنة 2011 في المحيط الإقليمي. منذ 2013 وُجِّهت الأنظار نحو الدول التي تعيش على إيقاع الفوضى والعنف، مثل ليبيا واليمن وسوريا، لكن الأحرى أن نوجه النظر كذلك إلى الاحتجاجات الكبرى التي اندلعت في الدول التي تحكمها أنظمة ملكية، ففي 2017، عاش المغرب على إيقاع حراك الريف واحتجاجات جرادة اللذين لم تنته آثارهما بعد، وفي يونيو 2018، أدت الاحتجاجات في الأردن إلى إسقاط الحكومة، وبينهما حاول ولي العهد في السعودية فرض بعض الإجراءات على المواطن (رفع أسعار المحروقات، فرض الضريبة على القيمة المضافة…)، لكنه سرعان ما تخلى عنها. وهي رسائل تفيد بأن العاصفة المقبلة قد تضرب الأنظمة الملكية أساسا. عندما سألت «أخبار اليوم» المفكر الكويتي/الفلسطيني، شفيق ناظم الغبرا، عن فشل الربيع العربي، أجاب بأن للفشل أوجها متعددة؛ أبرزها أن النخب الحاكمة لم تستثمر تلك الفرصة، وتعاملت معها بعنف وقمع ومحاولة نسفها بالتدريج، أملا منها في إعادة الأمور إلى ما قبل 2011، واعتبر أن هذا المسعى «مستحيل». وبين إصرار الشعوب على الانعتاق، وإصرار الأنظمة على القمع والتدجين، دخلت المنطقة طريقا مغلقا، قد يكون الخروج منه عنيفا وعاصفا، خصوصا أن الربيع العربي «حدث مستمر معنا، ولم يتوقف».