على بعد 30 كيلومترا من العاصمة الاقتصادية، تقع مدينة حد السوالم. مدينة صغيرة وهادئة، تمتزج فيها مظاهر التمدن ومظاهر البداوة. فمنظر العربات التي تجرها البغال والأحصنة هي “طاكسي” المدينة لمن يريد التنقل من مكان إلى آخر بعشرة دراهم في ظل غياب سيارات الأجرة لحدود الساعة. حد السوالم بطبيعتها الهادئة وموقعها الجغرافي تغري الكثير من الراغبين في الهروب من صخب مدينة الدارالبيضاء المجاورة ورطوبتها ونسب التلوث المرتفعة بها، كما اختار عدد من مرضى الربو والحساسية الاستقرار فيها نظرا لجوها الصحي مقارنة بالمدن الكبرى. لكن، على ما يبدو، هدوء المدينة وجوها الناعم أضحت تهدده اليوم أخطار التلوث. أصوات من داخل المدينة تعالت في الآونة الأخيرة بعدما بلغ السيل “الزفت” الذي أقلق راحتهم. وقفات احتجاجية، عرائض موقعة من السكان وفاعلين في المجال البيئي، أما المتهم الرئيس في هذه القضية فهو معمل مختص في صناعة الإسفلت، يقول السكان إنه بسبب أنشطته الصناعية في الفترة الليلية، تغدو المدينة غير محتملة بروائح مزكمة للنفوس تقتحم بيوتهم في عز الليل ليصبح النوم حينها “بريستيجا” كما جاء على لسان إحدى الشهادات. ما حقيقة الروائح الكريهة للمصنع المعني؟ ما الذي دفع السكان لاتخاذ مثل هذه الخطوات بعد ثلاث سنوات من تأسيسه؟ ما هي وجهة نظر القائمين على مصنع الإسفلت في الموضوع؟ ولماذا اختار السكان الاحتجاج ضد هذا المصنع دون غيره من الوحدات الصناعية المحيطة بالمنطقة؟ أسئلة دفعت “أخبار اليوم” للتنقل للمدينة من أجل التحري في الموضوع. معاناة يومية مع روائح مزكمة “في مرات عديدة كنت أحمل ابني إلى قسم المستعجلات من أجل تزويده بالأكسجين جراء تعرضه للاختناق بسبب روائح الإسفلت التي تقتحم البيت كل ليلة”، هكذا بدأ محمد، أحد سكان حد السوالم، حديثه مع أخبار اليوم، وحديثه عن معاناته اليومية تدفعه إلى إغلاق فتحات النوافذ باللصاق للحيلولة دون دخول الروائح لبيته. محمد واحد من سكان المدينة الذين تعالت أصواتهم في الآونة الأخيرة احتجاجا على مصنع الإسفلت المجاور لمقر سكانهم والذي بسبب أنشطته الصناعية يطلق روائح كريهة تنغص عليهم حياتهم اليومية على حد قولهم. في إحدى المقاهي بالمدينة، جلسنا بمعية عدد من سكان إحدى الأحياء لتبادل أطراف الحديث حول الموضوع، بمجرد ما طرحنا سؤالا حول حقيقة روائح كريهة متعلقة ب”الزفت”، تعالت أصوات وهي تتسابق لتدلي بمعاناتها اليومية مع هذه الروائح. أحدهم أخبرنا أن الموضوع أضحى روتينا، خاصة في فترات الليل التي تتضاعف فيها هذه الروائح وهو أمر يصبح معه النوم “بريستيجا”. متحدث ستيني آخر حكى ل”أخبار اليوم” قصة معاناته مع مرض الربو بمعية عدد من أفراد أسرته، معاناة تزداد حدتها مع الانبعاثات السامة للمصنع والروائح التي ينفثها في سماء المدينة، استحالت معها حياتهم إلى جحيم لا يطاق، وتعرضهم باستمرار لاختناقات ليلية ما يستدعي في غالب الأحيان تدخلا طبيا عبر التزود بالأكسجين الصناعي. من بين من حاورتهم “أخبار اليوم” حول موضوع تلوث الهواء في حد السوالم، بضعة تلاميذ كانوا يهمون بالخروج من المدرسة، غداة تبادل أطراف الحديث معهم أكدوا لنا أن الروائح تقتحم أحيانا حجراتهم الدراسية لتعبث بهوائها وتحيله إلى جو لا يطاق ولا يحتمل. موضوع الروائح هذا أضحى حديث سكان حد السوالم في الآونة الأخيرة، “عيينا منهدرو ونتشكاو ومكاينش لي يديها فينا”، يقول أحد الشبان من سكان المدينة، معربا عن تذمره من عدم الاستجابة للشكاوى المتكررة، “علما أن الموضوع يجب ألا يستهان به ويفترض أخذه على محمل الجد نظرا لتداعياته الصحية والبيئة الخطيرة”، يقول الشاب العشريني. بلغ السيل “الزفت” المعاناة اليومية لسكان حد السوالم دفعت بثلة من سكانها إلى تأسيس تنسيقية محلية مدنية تتولى موضوع هذا الملف، بدءا بتنظيم وقفات احتجاجية أمام مقر بلدية المدينة لدق ناقوس الخطر إزاء الموضوع، مرورا بمراسلة الجهات المسؤولة طمعا في تحرك عاجل ينهي معاناتهم. هشام الدرياني ومحمد بن عبده وخالد واوا البهلولي بعض أعضاء التنسيقية، يقولون إن الإسفلت جمعهم بعدما أقلق راحتهم، الشيء الذي دفعهم لتوحيد صوتهم لنقل معاناة سكان حد السوالم مع مصنع الإسفلت. وفي هذا الصدد، قال هشام الدرياني ل”أخبار اليوم”، إنه “ليس لديهم مشكل مع الاستثمار بالمنطقة. فالأمر من شأنه خلق فرص شغل للشباب وإنعاش الحياة الاقتصادية في المدينة، لكن ليس على حساب صحة السكان وبيئتهم”، مردفا أن المصانع والمعامل التي يجري الترخيص لها يجب أن تحترم المعايير البيئية المعمول بها عادة. وأضاف ذات المصدر أن السكان لديهم تخوفات من أية حرائق محتملة قد تهدد أمنهم، خاصة أولئك المجاورين للمصنع والمتواجدين على مرمى حجر منه، نظرا للمواد القابلة للاشتعال التي يشتغل بها، وما يزيد الطين بلة هي الإمكانيات المحدودة للوقاية المدنية في مدينتهم الصغيرة. الدرياني أبرز أن عددا من الوحدات السكنية المندرجة ضمن خانة السكن الاجتماعي وعمليات إعادة الإيواء تقع على بعد خطوات فقط من المصنع، أمر يضع حياة سكان هذه الأحياء أمام خطر حقيقي. وأردف المتحدث أن المصنع كان يمارس نشاطاته نهارا، غير أن الاحتجاجات المتتالية للمصانع المجاورة من بينها تلك المتخصصة في صناعة الأدوية والدعاوى القضائية التي رفعتها ضدها دفعته إلى تحويل عمله للفترة الليلية والذي يستمر إلى الساعات الأولى من الصباح، وهو ما يعني أن السكان هم الحلقة الأضعف في هذه العملية، على حد قوله، لأنهم يدفعون الضريبة غاليا. من جهته، أكد خالد واوا البهلولي المكلف بلجنة التواصل والإعلام في التنسيقية، أن المصنع يشتغل وفق معايير مصانع الدرجة الأولى، علما أنه في الأصل يجب أن يشتغل بمعايير المصانع الدرجة الثانية والثالثة نظرا لموقعه الجغرافي القريب من السكان. وهو ما يعني أن دوره يجب أن يقتصر على التخزين والتلفيف وليس التصنيع بحسب ما ينص على ذلك دفتر تحملاته على حد قول محدثنا. الأخير حمل المسؤولية للثغرات التي تعتلي مشهد التسيير في المدينة، خاصة فيما يخص الجانب الاستثماري في ظل غياب أية مراقبة دورية حول مدى احترام هذه المصانع المحيطة بالمدينة للمعايير المعمول بها. من جانبه، أبرز محمد بن عبده عضو في التنسيقية، أن السكان غير مستعدين لتقبل حلول ترقيعية، بل لا بد من حل نهائي للمشكل يقضي بترحيل المصنع لمكان يستطيع فيه ممارسة نشاطاته الصناعية بشكل لا يؤذي معه سكان حد السوالم ولا يتهدد صحتهم بأمراض خطيرة. موضوع التلوث الهوائي هذا، أرخى بظلاله أيضا على أثمنة العقار داخل المدينة نتيجة تراجع الإقبال على اقتناء وحدات سكنية متعلقة بالسكن الاجتماعي خاصة تلك المجاورة للمصنع المعني. عدد من المواطنين أبدوا تخوفهم وترددهم من الاستقرار في المنطقة بعدما كانت قبل بضع سنوات الوجهة المفضلة للهاربين من صخب المدن الكبرى وتلوثها على غرار البيضاء، بينهم على الخصوص مرضى الربو والحساسية، بيد أن هؤلاء سرعان ما وجدوا أنفسهم أمام مشكل عويص يتربص بحياتهم كما حكى لنا عدد من أعضاء التنسيقية وسكان حد السوالم. “الموضوع يتعلق بحملة تحريضية” أمام نفي المدير المشرف على الوحدة لكل التهم الموجهة لمصنعه، تبقى التساؤلات المطروحة هنا هي أنه إذا كان هذا بالفعل صحيحا، فلما هذا المصنع بالضبط؟ ما الذي يدفع الشهادات التي استقيناها وأعضاء التنسيقية المحلية للتحرك ضده إن كان فعلا يحترم المعايير المعمول بها كما ذكر مديره، علما أن المنطقة غنية بوحدات صناعية متعددة ومختلفة الأنشطة؟ أسئلة طرحناها مرة أخرى على حسن علام، الذي أشار إلى وجود حملة تستهدف المشروع منذ انطلاقته قبل ثلاث سنوات وبالضبط سنة 2016، “كل الذين يتحدثون وينتقدون هم أشخاص غير متخصصين وليست لديهم دراية بالمعايير المعمول بها”، مردفا بقوله “أشك في أن السكان العاديين قادرون على التمييز بين الروائح المنبعثة عن كل مصنع على حدة”. كما أكد حسن علام أن الشركة ستتخذ الإجراءات القانونية إزاء حملات التشهير التي تطالها والسعي للنيل من سمعتها وإثارة تخوف زبنائها. كما لم يستبعد المدير وجود دواعي سياسية وانتخابية وراء الموضوع، مرجحا أيضا فرضية وجود منافسين اقتصاديين محتملين مناوئين للمصنع ويسعون للنيل من سمعته عبر التحريض ضده. المجلس البلدي يراسل لجنة إقليمية للتقصي بين رواية السكان ورواية المصنع، هنالك طرف ثالث معني أيضا بالقضية، يتعلق الأمر بالمجلس البلدي لحد السوالم، رئيسه حكيم عفوت وفي تصريح ل”أخبار اليوم”، أكد أن البلدية استجابت للنداءات المتكررة للسكان، وتمت مراسلة اللجنة الإقليمية من أجل التحري في الموضوع، مشيرا إلى أن اللجنة سبق وأن قامت بزيارة ميدانية للمصنع المذكور السنة الماضية، وحثت مسؤوليها على ضرورة شراء معدات خاصة لمعالجة المشكل، مبرزا أن “المسؤولين على المصنع لا يحترمون طبيعة رخصة الاستغلال الممنوحة لهم، والتي لا تنص على ممارسة مثل هذه الأنشطة في المنطقة المتواجد فيها”، على حد قوله. رئيس المجلس البلدي لحد السوالم، أكد أن الروائح ازدادت حدتها خلال الفترة الأخيرة بعدما كانت مقتصرة على أيام دون غيرها. يشار إلى أنه ليست هذه هي المرة الأولى التي يضيق فيها سكان حد السوالم ذرعا من الوضع البيئي الذي يهدد مدينتهم، إنما سبق وأن اشتكوا غير ما مرة من مطرح للنفايات الصناعية والكيماوية على الحدود المتاخمة للمدينة، والذي فعل بدوره فعلته في المجال البيئي. الحرق المستمر لهذه النفايات يسمم جو المدينة بروائح كريهة، جعلت من منطقة الساحل قنبلة موقوتة يدفع ثمنها على الخصوص أولئك المجاورون للمطرح. ليبقى السؤال المطروح في مثل هذه الحالات، إلى أي حد تؤخذ الاعتبارات الصحية والبيئية على محمل الجد في عدد من الاستثمارات الصناعية خاصة تلك المجاورة لمناطق مأهولة بالسكان؟.. للمصنع رواية أخرى.. حملنا كل الشكاوى والشهادات وكل ما قيل لنا من اتهامات لهذا المصنع وتوجهنا مباشرة لمقره الرئيسي، طلبنا لقاء المدير المسؤول من أجل أخذ وجهة نظره في القضية، والرد عن الاتهامات الموجهة له. المدير المصري الجنسية المشرف على المصنع حسن علام استقبل “أخبار اليوم” في مكتبه للحديث عن الموضوع. الأخير، وبعدما نقلنا له الاتهامات الموجهة لمصنعه، قال إنه أسس هذا الأخير بعد 23 سنة من التجارب المماثلة في عدد من الدول، منها بلدان الخليج والهند وإيطاليا.. وكل المصانع المتخصصة في صناعة الإسفلت مجهزة بوحدة معالجة الانبعاثات، “والوحدة الموجودة في حد السوالم تعد أفضلها على الإطلاق”، يقول حسن علام. مردفا أن هذه الصناعة تصنف عالميا على أنها غير مضرة بالبيئة كما يجري تصفية انبعاثات الأدخنة داخل المصنع عن طريق مصفاة جافة ومائية قبل نفثها في الهواء. وعن الخطورة التي تشكلها أنشطة المصنع على البيئة والهواء في المنطقة، قال مدير المصنع إنه وبعد تعالي الشكاوى وكثر اللغط حول الموضوع، “انتدبنا المختبر العمومي وطلبنا منه قياس الانبعاثات والتحري حول إمكانية احتوائها على أية أضرار معينة، وهو ما استجاب له المختبر بعدما بعث بوحدة متنقلة ظلت معنا لمدة 3 أيام على مدى 24 ساعة، وأعطونا تقريرا كاملا حول كل ما يتعلق بأنشطة المصنع وتبين أنها مطابقة لمعايير البيئة”. المدير، ومن خلال حديثه مع “أخبار اليوم”، نفى نفيا قاطعا وجود أية روائح كريهة ناتجة عن أنشطته الصناعية، “وحتى إن وجدت فهي في حدود المعقول ولا تتعدى نطاق المصنع في حد ذاته”، معتبرا أن الموضوع أخذ أكثر مما يستحق. وعن تهمة ممارسة نشاطاته الصناعية خلال ساعات الليل، نفى علام اشتغال المصنع خلال الفترة الليلية، على اعتبار أن عمله لا يتعدى حدود العاشرة مساء على أبعد تقدير. وبنبرة تحد للأصوات المنتقدة للنشاط الصناعي للمصنع، قال حسن علام: “إذا كان المعمل فعلا لا يحترم المعايير المطلوبة فليتفضل هؤلاء وليجروا اختبارات سواء بالليل أو النهار وأنا مستعد لدفع تكاليفها، فليثبتوا إذن أن هناك فعلا تلوثا يتسبب فيه المصنع”. وفي جوابه عن سؤال يتعلق بخرق دفتر تحملاته على مستوى أنشطته الصناعية، قال علام إن مصنعه مرخص له على أساس التصنيع وليس التخزين أو التلفيف. مشيرا إلى أن السلطات لا يمكن أن تسمح بخرق للقانون بهذا الشكل، “نحن لا نشتغل في مصنع عاد، هذا مصنع كبير وأنشطتنا نمارسها جهارا ولا نخفي شيئا”. الأخير أكد أن المنطقة تشهد فعلا روائح كريهة ناتجة عن مصانع معروفة محيطة بها، “فعلى أي أساس يجري تحديد أن هذه الروائح فعلا تتعلق بمصنعنا وليس بهذه المصانع؟”.. يتساءل علام باستغراب. المدير المشرف على الوحدة الصناعية، أكد أن أكبر دليل على براءة مصنعه من التهم الموجهة إليه، هو توفره على علامة إيزو وعلى علامات بيئية أوروبية يتمنى أي مصنع الحصول عليها، على حد وصفه، كما تساءل مستغربا: “كيف يمكن لي أن أستثمر أموالا ضخمة في مشروع تلاحقه شبهة يمكن أن تؤدي إلى إسدال الستار على أنشطته؟”.