مع اقتراب مرور قرن كامل على الاحتضان الغربي لتحركات «الوطنيين» العرب الساعين للتخلّص من السيطرة العثمانية (التركية)، واحتضان باريس لأحد أشهر مؤتمراتهم عام 1913؛ تحوّل الانجذاب العربي التركي الذي أفرزته ثورات الربيع العربي، إلى مصدر لهواجس جديدة للعالم الغربي، جعلته يسحب رداء الرضا الذي ظلّ يلفّ به الدولة العلمانية في تركيا منذ تأسيسها من طرف أتاتورك. والسبب الرئيس، تجاوز تركيا أردوغان لحدود الدائرة المرسومة لها منذ قرن، وشروعها في تصدير نموذجها القائم على ثنائية القومية والانتماء الإسلامي، إلى شعوب المنطقة العربية التي خرجت عام 2011 بحثا عن الخلاص من قيود ما بعد «سايكس بيكو» ومعها أنظمة الاستبداد والقمع. تركيا أردوغان القوي واسطنبول البهية والجيش المسلّح ذاتيا (تقريبا) والدبلوماسية المتمردة على الوصاية الغربية والطامحة إلى دور إقليمي يستند إلى الشرعيتين التاريخية والدينية؛ لم تعد هي تركيا ما قبل الربيع العربي، أي تلك الدولة التي تعانق الغرب مجرّدة من ردائها الثقافي (الديني). والرجل الذي يحكم تركيا منذ أزيد من 15 عاما، بدوره لم يعد ذلك الشاب المتمرّد على شيخه (أربكان)، والساعي إلى الجمع بين العلمانية والتنمية والإشعاع الدولي. رجب طيّب أردوغان، شق لنفسه طريقا نقلته من مجرّد رئيس حكومة يمشي في ظلّ الدولة العميقة (الجيش والقضاء)، إلى سلطان جديد يحرّر الشعور الديني من جديد داخل نفوس الأتراك، ويغيّر الدساتير ليصبح رئيسا للجمهورية على النمط الأمريكي، دون أن يخلو سجلّه من آلاف الاعتقالات في صفوف الخصوم السياسيين والصحافيين والمعارضين، بدعوى التواطؤ مع الأعداء والانقلابيين. «أخبار اليوم» التي كانت قد خصصت في صيف العام 2011 حلقات مطوّلة لرسم صورة كاملة عن مسار تركيا منذ عهد أتاتورك إلى مرحلة هذا الرجل المعجزة؛ تعود بعد سبع سنوات لتنحت هذا البورتريه، مع ما حملته هذه السنوات من منعرجات وتحولات. تركيا القوية اقتصاديا وعسكريا ودبلوماسيا باتت اليوم درسا إلزاميا لجميع شعوب المنطقة العربية، لا مناص من قراءته، دون إغفال أن صانع هذه التجربة الاستثنائية، أردوغان، إنسان راكم الخطايا كما «الحسنات». فلنتابع… في الوقت الذي ينظر فيه البعض بحيرة كبيرة إلى التقارب «العاطفي» الذي وقع بين تركيا أردوغان وأوساط واسعة من المجتمعات العربية، وبينما يربط البعض بين هذا التقارب وبين السياسة «الإسلامية» التي نهجتها تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية؛ هناك من يجد تفسير هذا الانجذاب في محاولة التحول من الاستبداد إلى الديمقراطية. فمحمد زاهد جول يقول، في كتابه «التجربة النهضوية التركية»، إن تركيا اليوم «قائمة على تحول تاريخي، تتشكل فيه دولة حرة ومدنية وديمقراطية، أكثر من قبل، ودولة كبرى في المقاييس العالمية اقتصاديا وسياسيا». ويضيف جول أنه لم يمر عقد واحد على انطلاق هذا التحول الذي دخلته تركيا، «حتى بدأ التحول العربي يعلن مشروعه وثوراته نحو التغيير وإسقاط الاستبداد وإعلان الديمقراطية أيضا. وكما كان الحال في تركيا في هدم ادعاء العهود السابقة ترسيخ الديمقراطية، كذلك كان الحال في الدول العربية التي شهدت الثورات في بلدانها وإسقاط الأنظمة». القاسم المشترك بين دول الربيع العربي وتركيا، حسب جول دائما، هو أنها جميعا كانت تدعي الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، «ولم تكن تمارس إلا الاستبداد والقمع والفساد، أي أن هذه القيم كانت تدعى في العقود السابقة، لكن الواقع كان على خلاف ذلك». هذا التحول التركي نحو الديمقراطية لم يكن نتيجة ل«نضال» أردوغان وحزبه الإسلامي، بقدر ما كان حتمية بفعل التحول الذي وقع في الموقف الغربي من تركيا. فمن المفارقة أن الدعم الغربي المطلق لتركيا العلمانية منذ الحرب العالمية الثانية، كان حاجزا حال دون تحول تركيا إلى ديمقراطية حقيقية، حيث ظلت أوربا وأمريكا ومعهما حلف شمال الاطلسي، تدعم هيمنة الجيش على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية في تركيا. فهذه الأخيرة لم تكن بالنسبة إلى القوى الغربية سوى حاجز وقائي يحمي من المد القادم من الشرق الشيوعي، وبعد سقوط جدار برلين وتراجع خطر هذا الشرق بالنسبة إلى المنظومة الغربية، باتت أوربا ومعها أمريكا أقل دعما للنفوذ الذي كان الجيش التركي يتمتع به. هذا التحول في الموقف الغربي اتخذ شكل دعوة إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، بهدف إدماج تركيا في البيئة الغربية اقتصاديا وسياسيا، وهو ما كان يعني ضرورة الانفتاح التدريجي على لعبة ديمقراطية حقيقية، وهو ما سمح بشكل سريع بفوز الحزب الذي أسسه الشبان الخارجون من تحت جبة نجم الدين أربكان. انطلق التحول التركي نحو الديمقراطية بسلاسة ودون صراعات كبيرة، وذلك بالنظر إلى الوعي الذي كان يتمتع به الجيش، وإدراكه أن الأمر لا يتعلّق بمجرد قص لأجنحته، بل بتحول يخدم المصلحة القومية لتركيا. «استغلت حكومة أردوغان ذلك، فحسمت مجمل التعديلات التي وضعت حدا نهائيا لدور العسكر في الحياة السياسية بعدما أصبح عدد أعضاء مجلس الأمن القومي 9 مدنيين مقابل 5 من العسكر، بعدما كان عدد المدنيين 4 منذ تأسيس المجلس قبل 70 عاما تقريبا، كما أن قرارات المجلس لم تعد ملزمة للحكومات كما كانت في السابق…»، يقول سمير سبيتان، في كتابه «تركيا في عهد رجب طيب أردوغان». ويسجّل سبيتان كيف دعمت القوى التقليدية داخل تركيا بدورها هذا التحول، خاصة رجال الأعمال ووسائل الإعلام التابعة لهم، حيث وقفوا بالمرصاد لأي محاولة من جانب الجيش لعرقلة المسار الديمقراطي. «وبات واضحا أنه، أي المسار الديمقراطي، محمي من قبل الشارع التركي أكثر من أي وقت مضى، ولأن حزب العدالة والتنمية يحكم البلاد بمفرده دون أي ائتلاف مع أي حزب آخر». ويؤكد محمد زاهد جول، في كتابه «التجربة النهضوية التركية»، أن الدول العربية كانت تشترك مع تركيا ما قبل بداية التحول الديمقراطي خاصية الاستبداد الدستوري، حيث «كانت تركيا تحت سيطرة العسكر وحلف الناتو معا، وبعدما تغير الوضع الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أحذت تركيا طريقها في التحرر الداخلي والتحرر الخارجي معا، وأخذت تقيم علاقاتها الدولية على أساس مصالحها، ومع من تختارهم هي».