محمد ورضوان ومحمد وعبد الله، سجناء يقضون عقوبات تتراوح بين 12 سنة والمؤبد داخل السجن المركزي بمدينة القنيطرة، لكنهم قرّروا تحدي القيود، لنسج خيوط قصص إنسانية تُسائل المعنى الحقيقي لكلمتي: سجن وحرية. قبل 8 سنوات، سيُدين القضاء محمد عربوش، ب20 عاما من السجن بتهم تتعلق بالاختطاف والاغتصاب. سيظن الرجل، البالغ من العمر 50 سنة، أن حياته قد انتهت بشكل رسمي. مهزوما وخائفا، ويحس بذنب عميق، سيبدأ محمد بالتفكير في حياته الجديدة داخل أسوار السجن. لقد أصبح في رمشة عين محروما من كل حقوقه المدنية، ولن يعود بعد هذا اليوم سيّد مصيره، بل عليه الانضباط لقواعد جديدة لم يفكر يوما أنه سيكون مضطرا للانصياع لها. بعد هذه السنوات التي قضاها محمد محروما من الحرية، سيكتشف حقيقة جديدة لم يكن ليتعلمها لو لم يمر بتجربة مريرة كهذه: أنا الآن حي ومازلت قادرا على تطوير نفسي. تصالح الرجل مع ماضيه، وقرّر خوض تجربة المطالعة للخروج من أفكاره الأكثر سوداوية. سيجتهد طيلة سنوات ليجعل هذا الأمل الجديد، الذي ظهر في حياته فجأة، يكبر يوما بعد يوم. قبل حوالي عشرة أيام حصل محمد على شهادة الباكالوريا من داخل أسوار السجن المركزي بمدينة القنيطرة حيث يقضي عقوبته الطويلة. بل حصل على هذه الشهادة بميزة مستحسن، هو الذي لم يكن مستواه الدراسي يتجاوز السنة الأولى إعدادي. قصص ملهمة وراء القضبان خلف البوابة الكبيرة للسجن المركزي بالقنيطرة، يوجد مجتمع مغربي مصغّر. الباحة المقابلة لهذه البوابة هادئة جدا. الهدوء الذي يجعل قطة تقرّر الاسترخاء تحت أشعة شمس دافئة. بعد عبور البوابة الحديدية الكبيرة التي تقودك إلى المعاقل وبعض فضاءات السجن، تصبح بشكل رسمي داخل عالم أغلى كلمة فيه هي الحرية. تدرك حينها أن هذا الهدوء قد يكون زائفا، فصوت الصراعات النفسية التي قد يعيشها سجين يمكنها مقارعة أصوات العواصف والزلازل والبراكين. أصوات مدوّية تصلك من الداخل، تخبرك بأن حياتك الجديدة لا معنى لها. لكن ليس جميع السجناء يستسلمون لهذه الأصوات القاتلة ببساطة، لكل طريقته الخاصة في مقاومتها لكي لا يصاب بالجنون. فهناك أناس اختاروا نوعا خاصا من المقاومة: المعرفة. "لقد كان وضعي الاجتماعي جيدا. صاحبُ شركة متخصصة في تصفية الرمال المستعملة في مهن البناء. لدي أسرة، و3 أبناء، وفجأة وجدت نفسي قد فقدت كل شيء"، يقول محمد عربوش بصوت خفيض وهو يغالب دموعه، قبل أن يتركها تنهمر، رثاء لحياة سابقة اشتاق لها كثيرا. وبالرغم من أنه مجبر على قضاء 12 سنة إضافية داخل السجن، إلاّ أن محمدا مؤمن كثيرا بالمستقبل. "مادام الإنسان حيا، فهناك دائما بريق من الأمل"، يقول ل"أخبار اليوم". بهذه الروح، سيقرّر الرجل ذو البنية الضئيلة والملامح الخجولة، العودة إلى الدراسة بعد انقطاع دام 33 سنة. مغامرة كبيرة سيقطف أولى ثمارها سنة 2015، بحصوله على الشهادة الإعدادية. الفضل في ذلك يعود لطريقه التي تقاطعت مع طريق رفاق يواجهون نفس المصير داخل السجن بتحدّ قلّ نظيره لدى الأشخاص "الأحرار". خلال الدورة العادية لامتحانات الباكالوريا الأخيرة، فشل محمد في نيل الشهادة التي يحلم بها. لكنه عاد لخوض شرف المحاولة في الدورة الاستدراكية. بعد ظهور النتائج في 16 من يوليوز 2018 سيُعلن اسم محمد ضمن الناجحين، وبنتائج مرضية: 14 في مادة الفلسفة ومثلها في مادة التاريخ والجغرافيا. لا يريد التوقف عند هذا الحد، بل هو سعيد بالنجاح الذي حققه. الراحة الكبيرة التي غمرت روحه جعلته يفكر في متابعة الدراسات العليا في أصول الدين، هكذا يقول بثقة كبيرة. الطريق التي اختارها محمد عنوانا لحياته داخل السجن سبقه إليها سجناء آخرون وساعدتهم كثيرا في هذه المحنة. عاصم عبد الله، 45 سنة، خبر طريق الاجتهاد للتفوق على النفس، وأصبح مثالا في ذلك. دخل السجن سنة 2007 وحكم عليه بالمؤبد بسبب جريمة لا يريد العودة لنفض الغبار عن ذكراها. عندما كان عبد الله شابا يافعا يعيش بمدينة أزيلال الهادئة بين جبال الأطلس المتوسط والأطلس الكبير وسط المملكة، سيحصل على شهادة الباكالوريا في العلوم الرياضية. كان ينطوي على عقل حاد الذكاء مكّنه من الحصول على لقمة عيشه عن طريق إعطاء دروس التقوية لشباب أقل منه سنا. حلُم حينها بأن يصبح أستاذا لمادة الرياضيات، الشيء الذي لم يتوفق فيه بعد محاولات متكررة للالتحاق بمدرسة الأساتذة، وبدل أن يجد نفسه داخل الفصل محاطا بتلاميذ مفترضين، سيجد عبد الله نفسه، بعد سنوات من هذا التاريخ، داخل زنزانة سيقضي بها ما تبقى من عمره. تحوّل تراجيدي قد ينهي حياة أكثر الناس تفاؤلا حول العالم، إلا أن عبد الله كان له رأي آخر. فبعد سنوات من المطالعة داخل السجن، سيحصل على ثاني شهادة باكالوريا في مسيرته العلمية سنة 2013. وبواسطتها سينجح في نيل إجازة في القانون وأخرى في الاقتصاد. إرادة أكبر من الحياة نفسها، تدفع عبد الله للاستمرار في نفس الطريق. فهو يدرس حاليا في السنة الثانية شعبة الآداب الإنجليزية، وبالرغم من ذلك اجتاز اختبارات الباكالوريا لهذه السنة، شعبة العلوم الفيزيائية، وحاز عليها بميزة مستحسن. "على الإنسان أن يتبنّى منهجا في الحياة، يستحضر بواسطته جميع المعطيات المتوفرة لديه حتى يستطيع التغلب على الصعاب. قوام هذا المنهج هو الرياضة والمطالعة"، يقول عبد لله ل"أخبار اليوم". يرى الرجل أن الناس الذين يعيشون خارج أسوار السجن محظوظون فعلا. "الأنترنت هو أبسط مثال على ذلك، فهو يسهل الولوج إلى مصادر المعلومات. لكن بأبسط الإمكانيات المتوفرة لدينا داخل السجن نستطيع أن نحقق ما يعجز عنه هؤلاء"، يضيف بلغة بعيدة عن التحدي والمفاضلة، قريبة من النصح. لا يفكر عبد الله كثيرا في المستقبل، بل يعيش، كما يؤكد على ذلك، لحظة بلحظة. فلسفة روحية قديمة جدا تقيه من الوهم الذي يسجننا داخله العقل وهو يرسم لنا مسارات متخيلة للمستقبل، احتمال حدوثها ضئيل جدا، لكن بفعل الخوف، تصبح هذه الفرضيات المتخيلة، شيئا فشيئا، حقيقة لا تقبل النقض. يتركنا عبد الله بابتسامة على محياه، ويعود لعالمه الصغير، دون حاجة لسماع كلمة ثناء، فهو لم يعد في حاجة لأي مديح أو جزاء من أحد ليقوم بالأشياء التي يقوم بها. حسم الموضوع مبكّرا مع نفسه، وانتهى الأمر. مشعل ينير عتمة السجن "لقد ساعدنا سجناء سابقون، ونحن بدورنا نمرر المشعل للنزلاء الجدد لكي يختاروا طريقا مختلفا"، يقول محمد بويزان، 44 سنة، المحكوم بدوره ب20 عاما من السجن بسبب محاولة القتل العمد. قبل دخوله السجن سنة 2008، كان محمد حاصلا على شهادة الإجازة، ويعمل إطارا في الدولة داخل قطاع حساس. خلاف مع رئيسه في العمل سيتحول إلى تهمة عبدت له الطريق إلى السجن. يقول إن الأمر برمته عبارة عن انتقام، متشبثا ببراءته، لكنه لا يعير الأمر أي اهتمام حاليا. فقد قضى نصف العقوبة، وأمله كبير في أن يقضي النصف الثاني بنفس التفاؤل والانضباط. لم ينتظر محمد كثيرا داخل السجن ليحصل على شهادة الباكالوريا الثانية في مسيرته. كان ذلك سنة 2009، أي بعد عام فقط من الاعتقال. ثم سيحصل على إجازة في القانون العام وأخرى في القانون الخاص، ونجح هذه السنة أيضا في نيل باكالوريا في العلوم الشرعية. يحلم بأن يتابع دراساته في سلك الماستر، لكن حظوظ السجناء ضئيلة بهذا الخصوص. فالكثير من لجان انتقاء الملفات داخل الجامعة تشترط الحضور لمتابعة التكوين، وبما أن محمد يتعذر عليه ذلك لعقد إضافي من الزمن، يصل لمستوى الإجازة ثم يعود من جديد للباكالوريا ويختار شعبة جديدة في كل مرة، في حلقة مفرغة لا نهائية. بالرغم من هذه الصعوبة، يتابع 3 نزلاء بسجن القنيطرة دراستهم حاليا بالماستر، لأسباب مختلفة لا دخل للحظ فيها، يقول بويزان. وحسب الإحصائيات الرسمية التي حصلت عليها "أخبار اليوم"، فإن 101 سجين اجتازوا امتحانات الباكالوريا بمركز الامتحان الجهوي المتواجد بالسجن المركزي القنيطرة، وهو مركز يستقبل نزلاء المؤسسات المتواجدة في نفس الجهة، كسوق الأربعاء ووطيطة 1 ووطيطة 2 وسيدي قاسم. من ضمن المتبارين نجح 44 سجينا في نيل الشهادة، أي بنسبة تقارب 44 في المائة. 31 سجينا من هؤلاء يقضون عقوبتهم بالسجن المركزي، ومن بينهم عربوش وعبد الله وبويزان. 6 من هؤلاء حصلوا على ميزات: واحد بميزة حسن جدا وآخر بميزة حسن، ثم 4 بميزة مستحسن. على الصعيد الوطني، بلغ عدد الناجحين هذه السنة 332 نزيلا اجتازوا الامتحانات بمختلف المؤسسات السجنية، بنسبة نجاح بلغت 43 في المائة من مجموع المترشحين. إدارة السجن المركزي بالقنيطرة وفرت للنزلاء المدعوين لاجتياز الباكالوريا فضاء لمراجعة الدروس، وبرنامجا خاصا بالدعم والتقوية، يقول عبد اللطيف العطار، وهو مشرف اجتماعي بهذه المؤسسة السجنية، ولديه علاقة وطيدة بهؤلاء النزلاء، حيث يعرف من نجح منهم ومن فشل، ويعرف حتى نتائج حققها سجناء رحلوا لسجون أخرى خلال عمليات التنقيل الروتينية. أما مدير المؤسسة السجنية، عبد الإله حافة، فيقول إن الإدارة تعطي تعليماتها لتسهيل التواصل داخل المعاقل بين النزلاء الذين سيجتازون الامتحان، وحتى العائلات يتم تمكينهم من جلب المقررات الدراسية لذويهم داخل السجن. "الطلبة الحاصلون على الإجازات يساعدون النزلاء الذين يحضّرون للباكالوريا كثيرا عبر دروس الدعم"، يقول العطار ل"أخبار اليوم"، مضيفا أن أجواء الامتحان بهذا الفضاء تكون مماثلة للأجواء خارج السجن، بحيث خصصت هذه السنة 6 أقسام لهذا الغرض، مراقبة من طرف حوالي 20 أستاذا، بنفس معايير وزارة التربية الوطنية. إصرار يليق بالحرية داخل هذه المؤسسة السجنية، التي كانت معروفة في إحدى المراحل المفصلية من تاريخ المغرب برمي معارضي النظام من الإسلاميين واليساريين داخل براثنها، توجد اليوم حركة ثقافية محتشمة تحتاج للكثير من الدعم. رضوان الجوهري، 42 سنة، هو أحد الأعضاء النشيطين بالنادي الثقافي الموجود هنا. حصل بدوره على الباكالوريا هذا العام بميزة حسن، لتصبح الباكالوريا الخامسة من نوعها التي يضيفها لسيرته الذاتية، إلى جانب إجازة في القانون وأخرى في الاقتصاد. يتابع حاليا دراسته في السنة الثانية شعبة القانون بالفرنسية، وفي نفس الوقت يؤطر الشباب الراغبين في اجتياز الباكالوريا. هذه السنة أطّر الجوهري 5 نزلاء اجتازوا الامتحان في شعبة الاقتصاد، تماما كما فعل آندي دوفرين في الفيلم الخالد "شاوشانك ريديمبشن" الذي يكشف وجها آخر لحياة السجن. والنتيجة هي أن النزلاء الخمسة حازوا على شهادة الباكالوريا. قضى رضوان 9 سنوات داخل السجن، وبقيت أمامه 3 سنوات إضافية، تهمته كانت تزوير محرر رسمي حينما كان موظفا. قرابة عقد من الزمن وهو محروم من الحرية، مدة كانت كافية ليصبح رضوان إنسانا آخر. هو الأقرب لنسائم الحرية من رفاقه الذين تقاسموا مع "أخبار اليوم" تجربتهم الإنسانية المؤثرة، لهذا يفكر في الكثير من المشاريع ليبدأ بها حياة جديدة. فكل الصعاب تمر، حسبه، في نهاية المطاف، وعلى الإنسان ألاّ يعتقد تحت أي ظرف كان أنها النهاية.