المعمار لسان ينطق بالأحجار والأخشاب والمعادن، والنباتات أيضا. وفي موسكو يمكنك أن تسمع همس المعمار الجميل يتحدث عن تاريخ العاصمة الروسية، دون حاجة إلى كلام من أي كان. هناك ما هو قديم جدا، يعود إلى مئات السنين. يحكي مولد المدينة على نهر موسكوفا. وهناك ما هو متوسط العمر. يحكي سيرورتها. وهناك ما هو حديث جدا. يحكي غاياتها المستقبلية. وكل معمار موسكوفي له خاصياته، وينبئ عن عقلية صانعه والأسباب الثاوية وراء بنائه. المعمار القديم وبذخ الفكرة "الدموية".. عندما تهم بالتجوال في العاصمة الروسية موسكو تأخذ الحيرة بتلابيبك. يقفز سؤال كبير إلى ذهنك:"من أين البداية؟ وأين تكون النهاية؟". فهناك معالم كثيرة تستحق مشاهدتها. وكل منها حكاية تستحق أن تعرف وتروى. وما أن تقرر البدء، من مكان ما لا تعرفه، حتى تنطلق العين في تيهها، تسافر إلى اليمين، ثم إلى اليسار، وتارة إلى تحت، وأخرى إلى فوق. فهنالك أشياء كثيرة تجذب النظر، ويتمنى لو يتسمر الوقت لبعض الوقت، كي يشبع منها، قبل أن يمر إلى غيرها. في الطريق نحو الساحة الحمراء، مثلا، وهي معلم لا بد من مشاهدته، وإلا كانت الزيارة صفرا دونه، يكتشف المرء أن ميترو الأنفاق متحف هندسي كبير، في حد ذاته، يتعين أن يُخصص له وقت طويل لزيارته، والوقوف عند فكرته الهندسية، والغاية من تلك الفخامة التي بني بها. وهكذا تكتشف أن الفكرة ليست وليدة العهد الستاليني، بل هي قديمة جدا، تعود إلى القرن السابع عشر. التنفيذ فقط كان في عهد ستالين، وكان الغرض من الفخامة إظهار قوة الدولة السوفياتية من جهة، فضلا عن تقديم ما يثبت أن كل الخدمات الكبيرة هي للشعب وحده، وليس غيره. وحين تغادر ذلك المعلم العظيم والجميل، والذي يغريك بزيارات أخرى، سرعان ما تجد نفسك إزاء معالم عمرانية جديدة مذهلة. فأنت في الشارع الكبير المؤدي إلى الساحة الحمراء، حيث مقر الرئاسة، والإدارات الكبرى، والكنائس القديمة. وتتقدم، فيسحرك الحجر الذي تتمشى عليه، ويقودك رويدا رويدا إلى داخل الساحة. هناك بناء موسكوفي قديم له حكاية عجيبة. يقال إن التسمية لا تدل على اللون، بل على الجمال. ويقال إنها تدل على لون الدماء، فأحد الحكام قتل المئات، وربما أكثر، إثر موت زوجته. ومن تم جاءت التسمية، ولا علاقة لها بالمرحلة السوفياتية؛ الحمراء القانية أيضا في عهد ستالين. وهو أحد أكبر الحكام الدمويين عبر التاريخ. فخامة البناء هنا، بالأسوار العالية، والطوب القوي المحكم الترصيص، والأحجار التي تضم بعضها بعضا في الطرقات، والرخام القرمزي، والتماثيل الشامخة، كلها تدل على عهد كان الحكام يخافون فيه العدو مثلما يخافون فيه شعوبهم، وثوراتها المتولدة من الظلم الواقع عليها. وهي اليوم تتحدث عن ذلك الماضي العجيب، حيث كان الحاكم يعيش في الرغد، ويأكل الشعب من الفتات. الكنائس القديمة، التي أفلتت من بطش ستالين، أو أعيد بناؤها هناك، في الساحة الحمراء، تدل على تدين عجيب جدا. فهي، بقبابها المذهبة الأقرب إلى شكل البصل، ومآذنها الأقرب إلى قلاع أو منارات حربية، تدل على أن الحكام كانوا يستعملون الدين ليبقوا حيث هم على عروشهم، بدعم ممن يسوغون، بالآيات الإنجيلية، بطشهم، وجبروتهم. تقف شامخة، ولكنه شموخ لا يخفي شيئا من تاريخها الأحمر القاني. موسكو سيتي.. عمارات ل"مصارعة الغرب".. تتوسط المدينةالجديدة، موسكو سيتي، العاصمة الروسية. فهي تطل على كل شيء من حولها، وبخاصة على النهر الذي بنيت المدينة على شاطئه. وتكاد تكون، بعماراتها السابحة في السماء، والمغرقة في الأشكال الهندسية المتطورة، دخيلة على محيطها. وربما يشعر من يراها من قريب، أو يزورها، بأنها بالفعل كذلك، معزولة في مكان معين، كي لا يصلها إلا قليلون. فهي محطة لرجال الأعمال الكبار، ولأصحاب النفوذ، ولنجوم المجتمع، ولمن يملكون ملايين الدولارات، ومن يمكنهم شراء شقق فاخرة جدا، ويطلوا، من هناك، على مدينة تضم من هم متوسطو الدخل، ومن هم فقراء، ومن لا يملكون شيئا على الإطلاق. إنها، بشكل أو بآخر، مدينة أمريكية وسط العاصمة الروسية. أريد منها إبهار الغرب كله. أو القول:"نحن أيضا نستطيع أن نجاريكم في بناءاتكم المتطاولة، بل يمكننا أن نتحداكم، ونتفوق عليكم". ولذلك بالضبط، فهناك أشكال مختلفة تقابل بعضها، وكلها بواجهات زجاجية تذكرك بنيويورك الأمريكية، وب"توين سانتر" المنهارة ذات يوم، وهناك مصاعد تمكن من الوصول إلى الطوابق العليا، الشاهقة التي يفوق علو بعضها 370 مترا، في أقل من دقيقة، وهناك مواقف كبيرة جدا للسيارات، وهناك نظام مستقل لتوليد الكهرباء، وهناك حدائق تحيط المكان، وهناك شركات عملاقة، وشقق فاخرة، باستثمارات، جاء في تقرير ل"العربي الجديد"، أنها تصل إلى 12 مليار دولار (ملف المغرب لتنظيم كأس العالم 2026 تحدث عن 15 مليار دولار). موسكو سيتي النهارية تختلف عن موسكو سيتي الليلية. فالنهارية عبارة عن عمالقة من زجاج تبهر العين، وتدعو إلى زيارة المكان الشاهق، المعزول، مثل كتلة بلا روح. أما الليلية، بالأضواء الجميلة، والإطلالة الساحرة على النهر، فلها طعم خاص، يتذوقه من يعشق انعكاس الأضواء على الماء، وما تحدثه في النفس من رغبة في المشي، والعوم، والتماهي مع الأمكنة التي تفتح ذراعيها، وتبقى مستيقظة حتى ساعات متأخرة من ليل، أو ساعات أولى من نهار. يقول تقرير "العربي الجديد"، وهو يضع اليد على شيء يميز موسكو سيتي:"ويطل المتحف (متحف موسكو سيتي يوجد على علو 215 مترا) على أبرز معالم العاصمة الروسية مثل نهر موسكو، وأبراج ستالين الشهيرة، بما فيها مبنى جامعة موسكو ووزارة الخارجية الروسية، وقبة كاتدرائية المسيح المخلص، وملعب "لوجنيكي"، حيث جرت مبارتا الافتتاح والاختتام لمونديال روسيا 2018. وهو ما يعني أن المدينة الزجاجية حاولت، بدورها، أن تجد لها صلة بما حولها، حتى وهي معزولة بشكل من الأشكال. حين تبتعد عن موسكو سيتي، لا يأخذ إليها الحنين بقدر ما يجرك إلى الأماكن الأخرى، بمعمارها القديم، الذي تطل منه النقوش، والزخارف، وتماثل الحيوانات، ويدل على أن هناك أناسا فكروا في ضرورة إمتاع العين مع تحصين البنيان، والاحتياط من البرد والمطر مع إبراز الذوق وجمالية الروح. الحدائق.. الريف لا ينسى الحديقة مكون أساسي للعاصمة موسكو. إنها متنفس للمواطن والزائر، وبخاصة لهذا الأخير. فقد لا يملك أن يستمر في الانطلاق من معمار إلى آخر. ويتعين عليه أن يتوقف بين حين وغيره ليدخل حديقة على مرمى حجر، أو أخرى شهيرة، مثل حديقة غوركي، كي يسترجع الأنفاس، ويواصل رحلته مع المعمار الموسكوفي، الذي لا يتوقف عن الإبهار بالجديد. الجميل أن تلك الحدائق، التي هي عبارة عن متاحف نباتية مبثوثة في كل ناحية، تسلمك في كل مرة إلى متاحف معمارية جديدة. فتكتشف بأن من كان وراءها أراد أن يستريح بشكل أو بآخر من هذا البناء الفخم، بما يجعله، باستمرار، قريبا من الريف. فما أكثر الأسفلت. وما أكثر العمارات المتطاولة، تؤوي المئات. وما أكثر الإدارات الثاوية في عمارات بواجهات تدل على الصرامة، وأخرى تدل على شيء من اللطف. ولا يملك المرء، وهو يتجول في العاصمة موسكو، إلا أن يعجب بكل ذلك الكم من الحدائق، فهي، صغيرة كانت أو كبيرة المساحة، تقدم نفسها ببناء نباتي رصين جدا، وباحترام واضح للفضاء من حولها، وبلوجيستيك رائع، يمكنك من التريض، أو المشي، أو التنعم بالنباتات على تنوع أشكالها. وبين حديقة وحديقة يمكنك أن تجد حديقة. فالفكر هنا "حدائقي" بامتياز. يدل على أن الصانع استغل كثرة المطر على مدار السنة، وحاجة الناس إلى التنزه في فصل معين بذاته، ودفعهم إلى التريض، حتى يكونوا على أهبة "الحرب الحضارية"، وحرب الذات، كي تبقى حية، وغير مكلفة بالمرض والوهن، دون أن ننسى محاربة التصحر النفسي الذي ينتج عن كثرة البناءات في المدن الكبرى.