يحكي الحسن شهبار، أحد رموز الشباب السلفي وصهر عبد الوهاب رفيقي أبوحفص، في هذه السلسلة، شيئا من تاريخ ما عُرف بملف «السلفية الجهادية» بالمغرب.. . يُعيد شهبار، الذي حوكم بخمس سنوات سجنا بعد أحداث 16 ماي الإرهابية، ثم خُففت إلى سنتين قضاها متنقلا بين السجن المحلي بفاس والسجن الفلاحي أوطيطة 2، في هذه الحلقات، شريط الذكريات، ويقف عند تلك المحطات الكبرى التي تحتاج إلى مراجعة وتقويم.. وقد شجعه على ذلك جمع من أساتذته وأصدقائه الذين رحبوا بالفكرة وثمنوها.. فهي مهمة لإصلاح الخلل الذي وقع، وفي تصحيح المسار. القصة الثالثة: هي قصة طويلة، ولكنني سأختصرها مُقتصرا فيها على موطن الشاهد منها؛ وذلك أنه في صيف سنة 2002 كُنت أعمل إماما وخطيبا بأحد مساجد الناظور؛ فاتصل بي الشيخ في يوم من الأيام وطلب مني الحضور إلى فاس صباح اليوم الموالي لأمر هام جدا، ولم يرد الإفصاح عنه.. حضرت إلى فاس في اليوم التالي وتوجهت إلى منزل الشيخ؛ فكانت المفاجأة التي من أجلها جعل الشيخ أحد أتباعه يقطع كل هذه المسافة!! والمفاجأة هي أن الشيخ عبد الكريم الشاذلي سيحل ضيفا على الإخوة بحي لابيطا ظهر الخميس؛ فخطط الشيخ لإسقاطه هناك سقطة لا يقوم بعدها أبدا ولا يُفكر في الرجوع إلى فاس مرة أخرى.. فذكر لي أن هذا الذي يرفع نفسه إلى مرتبة المشيخة وهو لا يُتقن إلا موضوعا واحدا يُردده حيثما حل وارتحل، يجب أن نضع له حدا ونُعرف الناس بحقيقته ومكانته العلمية، وطبعا وافقت الشيخ على ذلك، وأعددنا الخطة التالية: سأحرص على أن أكون المسير للجلسة؛ فأقدم الشيخ أمام الحضور ثم أمنحه وقتا لإلقاء محاضرته، ثم أفتح باب الأسئلة، وكانت الأسئلة كلها من كتابة الشيخ أبي حفص الذي زودني بها وقمت أنا بإعادة كتابتها في أوراق مختلفة وبأقلام مختلفة وخطوط مختلفة، واتفقت مسبقا مع الشخص الذي سيقوم بإرسالها لي أثناء المحاضرة لأطرحها على الشيخ الشاذلي بعد انتهائه من محاضرته.. انتهى الشيخ من محاضرته.. شكرته عليها وانتقلت لبعض الأسئلة التي وردت من الحضور.. السؤال الأول: فضيلة الشيخ ما حكم المرأة المستحاضة التي لا ينقطع عنها الدم وكيف تفعل في الصلاة والصوم؟ صُعِق الشيخ الشاذلي من هذا السؤال وتمتم وهمهم.. استدركتُ الأمر بسرعة، وقلت فلندع فرصة للشيخ لاستحضار معلوماته، ولننتقل للسؤال الثاني: ما حكم المرأة التي تأتيها الحيض ليوم أو يومين ثم يتخلل ذلك طُهر ليوم أو يومين.. هل تُلفق الأيام أم لا؟ وهكذا توالت صعقات الشيخ الشاذلي وهمهماته إلى أن أتممت السؤال العاشر، وكلها أسئلة فقهية في باب الطهارة.. أخيرا تكلم الشيخ الشاذلي وذكر بأن هذه الأسئلة مهمة جدا وتحتاج إلى جلسة خاصة والوقت الآن لا يكفي للإجابة عنها!! وأنه سيعود في أقرب وقت ليُقدم للحاضرين دروسا خاصة في الفقه.. وهكذا ختمتُ الجلسة واعدا الجمهور بزيارة قريبة للشيخ يُجيب فيها عن هذه الأسئلة.. ولا زال الجمهور ينتظر عودته!! وأما النقطة الثانية، وهي البراءة من تكفير المجتمع، فنحن نشهد أن أبا حفص لم يكن من الذين يُكفرون المجتمع، لأن فكر التكفير والهجرة كان محصورا عند طائفة معينة من الناس يعيشون خارج العالم، لا يقرؤون ولا يكتبون، ولا يحضرون دروسا ولا ندوات ولا خُطبا.. ولكن هذا لا ينفي أن أبا حفص كان له تأثير كبير على الإخوة حينها في مسألة الغلو في التكفير، وذلك بسبب خُطبه الحماسية كما سبق ذكر ذلك، وبسبب الإطلاقات التي كان يُطلقها والمواضيع التي كان يُعالجها؛ إذ إن معظم دروسه كانت تدور حول حديث الغلام وحديث السفينة وقصة إبراهيم عليه السلام في البراءة من المشركين، وما شابه ذلك، وكذا حديثه عن الجهاد في سبيل الله وعن فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا منهجية ولا ضوابط ولا مراعاة لحال المخاطبين وقُدراتهم الفكرية والعقلية.. كل هذا أحدث اضطرابا كبيرا ونقاشا حادا عند الإخوة في مسائل الإيمان والتكفير، وكان الواجب عليه وهو الشيخ المتبع أن يُحذر أتباعه المبتدئين من الخوض في مثل هذه المواضيع الخطيرة التي تترتب عليها أحكام جليلة وعظيمة.. بل كان يُشجع أتباعه على قراءة كتاب (الجامع في طلب العلم الشريف) لعبد القادر بن عبد العزيز، ومعلوم أن هذا الكتاب قد جمع الشر كله في باب الغلو في التكفير، فكان الأولى أن يُرشدهم إلى حرقه لا إلى قراءته.. وإنما يُرشد إلى قراءته طلبة العلم الذين استوى عودهم وكمل رشدهم. وأما النقطة الثالثة، وهي الموقف من النظام الملكي؛ فقد صرح أبو حفص أن النظام الملكي وإن كان قائما على التوريث، فما دام يحفظ الدين ويوحد الأمة فلا يسع إلا القبول به وعدم معارضته والخروج عليه، سدا لباب الفتن، وحقنا لدماء المسلمين.. وما ذكره أبو حفص هنا صحيح لا إشكال فيه، ولم نعلم عنه خلاف ذلك لا قبل السجن ولا بعده. ولقد صرح أبو حفص بأن هذه النقط الثلاثة فيها كفاية وزيادة؛ بل زعم أنه لو لم يلتزم منها إلا بشرط واحد، وهو تحريم العمليات المسلحة لكان كافيا في نظره، واستغرب بشدة اشتراط البعض مثلا الإيمان بالديمقراطية، أو الالتزام بالعقيدة الأشعرية، أو حتى تفكير المجتمع ما دامت هذه الأفكار لم تترجم إلى أعمال مسلحة.. وهذا الكلام صحيح لا شك فيه، لأننا لا يمكن أن نحاسب الناس ونُحاكمهم على مجرد أفكارهم؛ لأن الفكر يُواجه بقوة الفكر والكلمة وليس بقوة الحديد والنار، وقد أثبتت كثير من التجارب أن إرهاب المعتقلات والسجون لم يُغير فكرا ولم يُبدل رأيا.. ولكن الغريب أن أبا حفص أصبح يرى الآن أن كل من لم يسلك مسلكه في المراجعة وطريقه في التراجع فإنه لا زال متطرفا إرهابيا وسلفيا جهاديا!!.