إن هذه الحادثة تبين لنا درجة الغلو التي وصل إليها بعض أفراد السلفية الجهادية في مسائل التكفير، وإذا كان هذا حال طالب جامعي يدرس الشريعة الإسلامية، فكيف سيكون الأمر بالنسبة إلى غيره من الأميين وعوام الناس.. وما ذكرته في مسألة التكفير ينطبق أيضا على التفسيق والتبديع، وقد شهدت النقاشات الحادة التي كانت تدور رحاها عند أبواب المساجد بين الإخوة في مسألة ترك الصلاة خلف الأئمة المبتدعين، وسبب بدعتهم هو قراءتهم القرآن جماعة، وقنوتهم في صلاة الوتر، وقراءتهم القرآن في المقابر، وحضورهم في المواسم الشركية التي تُقام بالأضرحة.. وقد نتج عن هذا هجر المساجد العامة وتعويضها بالصلاة في بعض المساجد الصغيرة التي كانت توجد بأسواق الأحياء الشعبية، أو إقامة جماعة ثانية بعد انتهاء الإمام من صلاة الجماعة الأولى. ومن المسائل التي وقع فيها غلو كبير، والمرتبطة بالتكفير والتبديع، مسألة الموقف من المخالف، وخصوصا الحركات الإسلامية العاملة بالساحة المغربية، والواقع يشهد أن الشيخ أبا حفص بمجرد أن وضع قدمه بفاس والتف حوله الناس، شن حرباً على الحركات الإسلامية المخالفة، وفي مقدمتها حزب العدالة والتنمية، بسبب مشاركتهم في الانتخابات الديمقراطية.. وهكذا ألقى الشيخ عدة دروس عن الديمقراطية والمشاركة في الانتخابات التشريعية، ومن هذه الدروس درس بعنوان «ألا له الخلق والأمر»، ألقاه بمقر جمعية أسد الله حمزة بحي بنسليمان سنة 2002، وكان الدرس عبارة عن هجوم عنيف على المشاركة السياسية عموما، وعلى حزب العدالة والتنمية خصوصا؛ مذكرا في درسه بأن الله تعالى كما أنه هو الخالق الرازق، فيجب أن يكون هو وحده الآمر والناهي، وأن الآمر والناهي في الانتخابات التشريعية الديمقراطية هو الشعب الذي يشرع من دون الله تعالى.. وقد وصل الأمر بسبب موقف الشيخ المتشدد في هذه المسألة إلى حدوث مشادات كلامية بحي اعوينات الحجاج بين بعض أتباع الشيخ وبين بعض الإخوة من حركة التوحيد والإصلاح الذين منعوه من إلقاء درسه بأحد المساجد هناك.. ومما أعجب له أن الشيخ رفيقي أبو حفص يصرح الآن في ورقته المقدمة لمؤتمر «ما بعد داعش: التحديات المستقبلية في مواجهة التطرف والتطرف العنيف»، الذي نظم بمراكش يومي 6 و7 أبريل 2018، دون خجل ولا وجل قائلا: «وقد ظهر أثر هذا الخلاف خلال الانتخابات التشريعية لعام 2002، حيث دعا الكتاني ورفيقي إلى المشاركة في الانتخابات، والتصويت لصالح حزب العدالة والتنمية، فيما عارض الفزازي والحدوشي أي مشاركة، ولو كانت بالتصويت للحزب الإسلامي، معتبرين ذلك من الشرك، وقد أصدر حينها الفزازي كتابه: ‘‘لماذا لا نشارك في الانتخابات الديمقراطية؟''»! وهذا تدليس قبيح من أبي حفص؛ لأن الشيخ لم يبدأ في تغيير موقفه من الانتخابات الديمقراطية والجماعات والأحزاب الإسلامية إلا بعد لقائه بالشيخ الكتاني، حيث تأثر بفكره ومنهجه وحتى بطريقة لباسه، فأصبح يُقلده في لبس السلهام المغربي ووضع العمامة. وقد صرح لنا أبو حفص بنفسه مرارا حينها بأنه معجب بالشيخ الكتاني الذي جمع الله له بين جمال الصورة وشرف النسب وزاده بسطة في العلم والجسم.. ونظرا إلى هذا التأثر الكبير بالشيخ الكتاني، يمكننا أن نميز بين مرحلتين من دعوة أبي حفص بمدينة فاس؛ المرحلة الأولى تبتدئ من مجيئه إلى فاس بداية سنة 2000، وتنتهي عند لقائه بالشيخ الكتاني نهاية سنة 2002، وقد تميزت هذه المرحلة بعنف الخطاب والهجوم على الحركات والجماعات الإسلامية، والمرحلة الثانية تبتدئ من لقائه بالشيخ الكتاني إلى وقت الاعتقال الثاني قبيل أحداث 16 ماي 2003، وقد تميزت هذه المرحلة ببداية تحول فكر أبي حفص من الغلو والتشدد إلى نوع من الوسطية والاعتدال، ودليل ذلك أن المقال الذي كتبه أبو حفص باسم مستعار (أبو أسامة المغربي) يرد فيه على موقف الفزازي من الانتخابات لم يكتبه إلا في بداية سنة 2003، والانتخابات التشريعية كانت سنة 2002؟ ولست أدري لم يُصر أبو حفص على الكذب والمراوغة في كل حديث له عن المراجعات، هل يخجل من ذكر ماضيه؟ أم هل يظن أن تدليساته ستنطلي على الناس؟ ألا يعلم أن الكذب لا ينفعه في مسائل شهدها آلاف الخلق الذين مازالوا أحياء؟ ولقد صرح أيضا في ورقته تلك قائلا: «كما كان الفرق واضحا من خلال الموقف من حركات الإسلام السياسي، حيث كان الكتاني ورفيقي يتمتعان بعلاقة طيبة بهذه الأطراف، فيما كان موقف الآخرين حادا يصل أحيانا إلى حد التكفير». إن هذا الكلام لا يصح إطلاقه حتى لا يتوهم القارئ أن أبا حفص كان على هذا المنهج منذ البداية، وإنما يجب تقييده بزمان تغيره، وقد حدث ذلك عند تكرر لقاءاته بالشيخ الكتاني أواخر سنة 2002. وما يضيره لو أنه امتلك الشجاعة وصرح بالحقيقة كما هي، ليتحمل كل واحد مسؤوليته الكاملة، وليصح حديثه عن المراجعات.. وإنني مازلت أذكر عندما اجتمعنا بالشيخ أبي حفص بأحد المنازل بحي بنسودة، وكنا مجموعة من الطلبة، وكان اللقاء مخصصا للحديث عن تأسيس فصيل طلابي بالجامعة يحمل اسم «الوعي الإسلامي السلفي»؛ أذكر أن الشيخ كلف في ذلك اللقاء كل واحد أو اثنين بإعداد بحث شامل عن كل حركة من الحركات الموجودة بالساحة الجامعية، وكُلفت أنا شخصيا بإعداد بحث عن حركة العدل والإحسان لأنني كنت قد أمضيت معهم سنة كاملة بالحي الجامعي، وكنت مطلعا على كتابات الشيخ عبد السلام ياسين رحمه لله. والشاهد من هذا كله أن أبا حفص كرس ما كان عليه الإخوة آنذاك من اعتبار أن ما هم عليه هو المنهج الصحيح، وأن كل من خالفه فهو على باطل، كما شجع إذكاء الصراع مع الحركات الإسلامية المخالفة.. ولم يتراجع عن هذا الأمر إلا بعد احتكاكه كثيرا بالشيخ الكتاني وتأثره بمنهجه وطريقته.