غير بعيد عن النقاش الذي أعقب مقترح إصدار عفو عام عن معتقلي حراك الريف، وبعيدا عن التأويلات الفاقدة لروح القوانين، كما حددها مونتيسكيو في كتابه بالعنوان نفسه (De l'esprit des lois)، وربط تحقيقها ب«جعل المؤسسات السياسية تعكس المظاهر الاجتماعية والجغرافية للمجتمع، والمحافظة على الحريات المدنية وعلى القانون»، فإن مسألة العفو العام أصبحت أمرا واقعا مادام هناك شبه إجماع داخل المجتمع على رفض الأحكام أو، على الأقل، التعبير عن الاستياء منها. حتى الحكومة، التي يفترض أنها تنصبت ضد المعتقلين، عبرت عن تعاطفها معهم ومع عائلاتهم، حتى إن مصطفى الرميد قال إن القاضي مطالب بأن يأخذ بعين الاعتبار مشاعر مجتمعه. الملك بدوره أقر بمشروعية مطالب الحراك عندما استبق كل هذا، وعاقب وزراء ومسؤولين على تقصيرهم وتسببهم في تعثر مشاريع الريف. لذلك، فسواء وجد مقترح العفو العام طريقه إلى التحقق أم تعثر في منتصف الطريق، فقد أصبح، شعبيا، أمرا واقعا، ولن يكون الحؤول دون إنفاذه سوى تأكيد للفكرة التي أججت حراك الريف، وهي أن كل مؤسسات الدولة لم تعد تعكس الإرادة الشعبية، والمؤسسة الوحيدة التي تمثل المغاربة هي الشارع. لذلك، فصدور قانون استثنائي يتعلق بالعفو العام، لن يعني شيئا آخر غير ترجمة الإرادة الشعبية إلى قانون، وإعطاء معنى للمؤسسة التشريعية المغربية، التي (بالنظر إلى تدني نسبة مشاركة المغاربة في الانتخابات، ثم الطريقة التي انتخب بها رئيسا مجلسي المستشارين والنواب، إضافة إلى هزالة أدائها) لا تعكس الإرادة الشعبية بل إرادة قلة من الناخبين. بهذا، فأي نقاش حول هذا العفو العام هو تجسيد للإرادة الشعبية الرافضة للأحكام باعتبارها مصدرَ التشريع، وروح القوانين باعتبارها الجوهر الحقوقي لأي تشريع. عدا ذلك فهي تفاصيل مقدور عليها. إن القول إن قانون العفو العام سيكون بمثابة تدخل في القضاء، وسيؤدي إلى إزالة الصفة الجرمية، نهائيا، عن الأفعال التي صدرت بخصوصها الإدانة، هو قول يمكن الرد عليه بالنقاش الذي أعقب أحداث أبريل 2013 بالدارالبيضاء، والمعروفة ب«الخميس الأسود»، حين أعطى الملك تعليماته إلى مصطفى الرميد، وزير العدل والحريات آنذاك، من أجل تقديم ملتمس إلى الهيئات القضائية المعنية يقضي بمنح السراح المؤقت للمعتقلين ل137 من مشجعي فريق الجيش الملكي الذين روّعوا الدارالبيضاء، وتوبعوا بتهم: «تكوين عصابة إجرامية والسرقة الموصوفة والإخلال بالأمن العام٬ وإلحاق خسائر بممتلكات الدولة والخواص، والتحريض على الكراهية بترديد عبارات عدوانية ومخلة بالآداب، وتسخير مواقع إلكترونية للتحريض على اقتراف جنايات»… فرغم الجدل الذي أثير وقتها حول اختصاص الملك بالعفو الخاص دون العام -خصوصا أن منطوق الفصل 58 من الدستور لم يقيد الملك بالعفو الخاص، كما هو الشأن في دساتير الدول الديمقراطية التي جعلت العفو العام حكرا على البرلمان- فلا أحد اعتبر أن «عفو» الملك عن المعتقلين سيؤدي إلى المحو الدائم للصفة الجرمية عن الأفعال التي توبعوا من أجلها. إن جوهر اختلال العلاقة بين المؤسسات الدستورية والمواطن المغربي يكمن في إحساس هذا الأخير بأنه يقع في أسفل سلم اهتمامها، وهذا الإحساس عادة ما كان يتجلى في تعاطي المغاربة بحياد، إن لم يكن بعنف، مع الفضاء العام. الآن نعيش تحولا غير مسبوق على هذا المستوى، حيث أصبح المغاربة يعتبرون الفضاء العام، الواقعي والافتراضي منه، «أكورا» يعلنون فيها فرحهم وغضبهم وقراراتهم… ومنها الاحتجاج على الدولة ورفض قرارات المؤسسات. وهذا أمر لا أعتقد أن الدولة تجهله، لكنها مازالت تتجاهله. فإلى متى؟