بعد أشهر من تعيين حكومة عبد الإله بنكيران، حاول هذا الأخير تحقيق تقارب مع رجال الأعمال، وطمأنتهم بعد موجة الربيع العربي، حيث أبلغهم رسائل سياسية في لقاء عقد في قصر المؤتمرات في الصخيرات، ووقع مذكرة تفاهم مع محمد حوراني، رئيس الاتحاد العام لمقاولات المغرب، تضع أسس علاقات جديدة. لكن حوراني، الذي كان يستعد لولاية ثانية على رأس الباطرونا، تراجع إلى الوراء، وترك الباب لمرشحة وحيدة هي مريم بنصالح، التي، بمجرد انتخابها، بدأت في خوض معركة ضد حكومة بنكيران في محطات مختلفة. كانت رسائل بنكيران غير مسبوقة بالنسبة إلى عالم رجال الأعمال، فقد خاطب جمعا كبيرا منهم داعيا إلى فتح صفحة جديدة بين الإدارة وبين رجال الأعمال، وقال لهم: «لقد انتهى الزمن الذي كانت فيه الإدارة تتحكم وتُراقب ثروة رجال الأعمال، بل يجب على الإدارة اليوم أن تكون رهن إشارة رجال الأعمال والمقاولين والمستثمرين. ومن أراد المال من أفراد السلطة، فعليه أن يخرج من الإدارة ويعمل في القطاع الخاص»، ودعا إلى تطبيق القانون واحترام المقاولة، وأيد حق الإضراب« لكنه اعترض على منع الآخرين من العمل. وفي المقابل، حذر الباطرونا من التهرب الضريبي والغش الجمركي واقتصاد الريع، وقال لهم: «الأفضل لكم أن تؤدوا ضرائبكم وتربحوا أقل في بلد مستقر، من أن تربحوا أكثر في بلد غير مستقر»، وطمأنهم إلى أن الملك محمد السادس يدعمه، ويدعم الحكومة من أجل خير البلد. كانت كلماته تنتزع بين الفينة والأخرى تصفيقات في قاعة قصر المؤتمرات بالصخيرات، الذي احتضن لقاء نادرا من نوعه. وكانت تلك أول مرة يخاطب فيها رئيس حكومة رجال الأعمال بهذه الطريقة. ولترجمة ذلك، وقع بنكيران مع محمد حوراني على مذكرة تفاهم في 6 مارس 2012، «لإرساء أسس الثقة المتبادلة والتشاور المنتظم بشأن الملفات الاقتصادية»، وجرى التنصيص على إقامة حوار دائم ومستمر ومؤسس للتشاور حول كل القضايا الاجتماعية والاقتصادية، كالتشغيل والتربية والتكوين والتكوين المهني والعدل، وتوفير مناخ الأعمال والاستثمار والتنمية المستدامة، وتحديد كيفية تنفيذ ما تم الاتفاق علية، حيث ستشكل مجموعات عمل واتصال دائمة من القطاع العام والقطاع الخاص للوقوف عند كل الإشكالات التي تعترض تطور الاستثمار بالمغرب. من جهته، تحدث حوراني بإيجابية، وعبر عن استعداده للتعاون والحوار مع الحكومة، وسافر مع بنكيران إلى منتدى دافوس سنة 2012، لكن المفاجأة حدثت في الشهر الموالي، عندما أعلنت مريم بنصالح ترشحها لرئاسة الباطرونا. حوراني، الذي سبق أن صرح بأنه سيترشح لولاية ثانية، أصدر بيانا مفاجئا أعلن فيه تراجعه لصالح المرشحة الوحيدة، وبرر تراجعه بأن هذه أول مرة في تاريخ «الاتحاد العام للمقاولات بالمغرب تترشح امرأة»، وأنه «ظل يناضل من أجل المساواة داخل الاتحاد»، وعبر عن سعادته بهذا الترشح وأعلن دعمها، لكن المراقبين فهموا أن هناك جهات أخرى اتهمت حوراني بمهادنة بنكيران، وأن المرشحة المقبلة سيكون لها توجه آخر. وهو ما سيظهر في محطات مختلفة فيما بعد. مقاطعة زيارة أردوغان كان أول موقف لمريم بنصالح هو مقاطعتها لقاء لرجال الأعمال الأتراك، استدعتهم جمعية «أمل» لرجال الأعمال، يرأسها الطيب أعيس، المقرب من حزب العدالة والتنمية. رجال الأعمال الأتراك جاؤوا بموازاة زيارة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، الذي حل بالمغرب في 3 يونيو 2012. بنصالح بررت المقاطعة بأنها لم تشرَك في الترتيبات السابقة للزيارة، إضافة إلى أنها لم تتوصل بالدعوة إلى حضور الاجتماع إلا قبل 3 أيام فقط من موعد زيارة أردوغان للمغرب. هذا الموقف أثار امتعاض بنكيران، الذي فهم سر الانقلاب على حوراني. لكن أبرز خرجة سياسية لبنصالح جاءت على بعد 48 ساعة من موعد اقتراع 7 أكتوبر، من خلال توجيهها انتقادات حادة إلى رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، وحكومته. بنصالح قالت في حوار مصور، مع موقع «فبراير كوم»، إن هناك مشكل «الثقة» في علاقة الحكومة برجال الأعمال، وأعطت الانطباع بأنه لم يتحقق شيء في عهد هذه الحكومة، حين قالت إن الباطرونا «اشتغلت وفق أرضية مع الحكومة من أجل تحقيق النمو الاقتصادي وتحسين مناخ الأعمال.. لكن، لم يتحقق شيء». زعيمة الباطرونا انتقدت أوضاع قطاع السياحة، حيث قالت إن المغرب يتوفر على كل شيء، «لدينا رؤية جلالة الملك، وبنية تحتية أولى في إفريقيا، وطرق، وميناء طنجة المتوسط وموانئ، لكن، مع الأسف، عندما نتحدث عن السياحة، فهذا القطاع مجهول». وعن الوضع الاقتصادي بالمغرب قالت: «إنه أشبه بشخص تعطيه سيارة لها ستة ديال الفيتاس، وهي تسير فقط بدوزيام»، كما تحدثت عن 6000 شركة «عاشت حالة إفلاس» في 2015. ولتعزيز موقفها، قالت إن بنك المغرب أخذ المبادرة وجمع اتحاد الأبناك، وممثلي المشغلين، ووجه مذكرة إلى رئيس الحكومة منذ 2 يونيو، «لكن هذه المذكرة بقيت دون جواب إلى الآن». بنكيران رد عليها، في مهرجان خطابي بمدينة فاس، متسائلا: «من يحرك هذه السيدة؟»، مضيفا: «علاقتنا مزيانة مع رجال الأعمال، وتنتهلاو فيهم وعطيناهم فلوسهم.. شكون اللي حرك هاد السيدة باش تكلم اليوم؟». موقف بنصالح أثار انتقادات حتى وسط رجال الأعمال، الذين دأبوا على الابتعاد عن الصراعات السياسية والانتخابية. عبد الرحيم لحجوجي، الرئيس السابق للاتحاد العام للمقاولات، قال، تعليقا على تصريحات بنصالح: «انطلاقا من الاستقلالية التي كنا نحرص عليها في الاتحاد العام للمقاولات، كنا نمتنع عن اتخاذ أي موقف في هذا الاتجاه أو ذاك»، مضيفا: «كنا حريصين على عدم إقحامنا في أي تموقع سياسي لصالح هذا الطرف أو ذاك، وهذه هي قوة الاتحاد». ضربة مع الجواهري لكن، قبل هذه الخرجة السياسية غير المعهودة من الباطرونا، ستتلقى حكومة بنكيران ضربة غير مسبوقة من نوعها، من مريم بنصالح بمشاركة بنك المغرب، المؤسسة المشرفة على القطاع البنكي في المغرب، والتي طالما التزمت بالتحفظ. هذا التحرك المشترك، الذي ضم أيضا المجموعة المهنية للأبناك التي يقودها عثمان بنجلون، تجسد في توقيع مذكرة مشتركة موجهة إلى رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، تحمل الحكومة مسؤولية الركود الاقتصادي وجمود حركة الاستثمارات. المذكرة تتضمن ملاحظات حول الوضعية الاقتصادية والمالية، وانتقاد ارتخاء بعض الأنشطة الاقتصادية، خاصة القروض. الهيئات الثلاث فسّرت هذه الخطوة بسعيها إلى إثارة انتباه الحكومة إلى الصعوبات التي يعرفها الاقتصاد وحركية الاستثمار، ومطالبتها باتخاذ عدد من الإجراءات. المبادرة جاءت في سياق تميّز بالخرجة المفاجئة لرئيسة «الباطرونا» مريم بنصالح، والتي هاجمت السياسات الحكومية في اللقاء الذي نظمته وزارة المالية حول النموذج الاقتصادي للمغرب، وبعد توقعات متشائمة لبنك المغرب. والي بنك المغرب، عبد اللطيف الجواهري، تحدث عن جمود النمو الاقتصادي، وتنافسية الاقتصاد الوطني الضعيفة، وهشاشة النسيج الإنتاجي، مضيفا أن جل المجموعات الصناعية الكبرى تواجه صعوبات، فيما تجمدت دينامية القروض، وارتفع معدل البطالة، خاصة في المدن، ودافع عن موقفه رافضا نعته بأنه يمارس السياسة، لكنه تعرض لانتقادات حادة، خاصة من أنصار البيجيدي. صعود مزوار الانتخابات الأخيرة للاتحاد العام لمقاولات المغرب حملت، مرة أخرى، خبرا غير سار لحكومة العثماني، بصعود صلاح الدين مزوار، رغم أنه لا يملك شركة، بل كان وزيرا للخارجية وأمينا عاما لحزب سياسي. عبد الله بوانو، برلماني العدالة والتنمية، كان أكثر وضوحا في التعبير عن مخاوف من تسييس الباطرونا، قائلا، في جلسة مساءلة رئيس الحكومة: «نخشى أن تتحول الباطرونا إلى هيئة سياسية بأجندة سياسية» مضيفا: «لا يكفي تقديم استقالته من حزبه، بل عليه أن يشتغل في الاتحاد العام للمقاولات، كما كان يفعل رؤساء سابقون للباطرونا، أمثال حسن الشامي وعبد الرحيم الحجوجي وحوراني». لكن رد مزوار لم يتأخر، فقد قال في أول لقاء مع الباطرونا إن الحكومة «لا تتوفر على رؤية اقتصادية»، رغم أن وزراء حزبه هم من يسيطرون على القطاعات الاقتصادية. فهل هي بداية حرب مزوار على البيجيدي من موقعه على رأس الباطرونا؟