رغم أنه المستشفى الأشهر لدى المغاربة والمعروف ب»السويسي»، أحد أكبر المستشفيات الجامعية وأهمها وأغناها تخصصا وموارد بشرية وتجهيزات، غير أن كل هذا لم يستثنه من أن يعاني نفس المشاكل والصعوبات التي تعرفها باقي مستشفيات المملكة، من نقص في الموارد البشرية والمعدات الطبية وطول المواعيد التي تنخر صحة المواطنين. هنا في مستشفى ابن سينا، يتعالى أنين المرضى وهم في قاعات الانتظار، وترتفع أصوات الاحتجاج والمطالبة بالحق في «الصحة»، وتتحول قاعات الكشف إلى ساحة فوضى وسط ازدحام شديد يصعب التحكم فيه. كانت القاعة مكتظة بالناس، لا تفرق بين المريض والمعافى، الكل تبدو على محياه ملامح الحزن والأسى، الأصوات بين الفينة والأخرى تتعالى بين أنين وصراخ وتدرعات إلى الله. كان الممددون على الأرض أكثر من الواقفين على أقدامهم، وأن تجد مقعدا كانت تلك هي الحظوة الكبرى. يشترك المنتظرون في كل التفاصيل، الألم وقلة الحيلة والهشاشة والضعف وكأنك تعيد شريطا سينمائيا رديئا عشرات المرات. في داخل غرفة صغيرة، تطل شابة في مقتل العمر ترتدي وزرة بيضاء ويبدو عليها أيضا ملامح التذمر، تنادي بأعلى صوتها قائلة «التالي»؛ ينهض شاب مغطى وجهه بالدم وقد انفرجت أساريره، يتكئ على كتف والدته ويدلف القاعة، يختفي لدقائق ثم يخرج وهو يحمل في يده ورقة وضمادة على رأسه، من خلال حديث والدته يبدو أنها غير راضية عن الخدمة المقدمة لفلذة كبدها، حيث علقت قائلة وعيناها غارقتان في دموعهما وهي توجه الكلام لإحدى السيدات اللواتي كن يجلسن بجانبها؛ «قد يصل أجلك في هذا المكان ولا ينجدونك بل يسرّعون موتك». هذه المشاهد تتكرر كل يوم بمستعجلات أهم وأكبر مستشفى جامعي في المملكة مستشفى «ابن سينا»، فما إن تدلف لقاعة الانتظار حتى تصاب بأزمة نفسية جراء ما تشاهده من تكديس للمرضى والفوضى وسوء المعاملة. خلال زيارتنا للمشفى مررنا بقسم المستعجلات، كان الوضع به أشبه بسوق أسبوعي، الضجيج وآنين المرضى يكسو الفضاء، وأصوات رجال الأمن الخاص الذين من المفترض أنهم ينظمون المكان هم من يزيدون الطين بلة، وذلك من خلال مشاداتهم مع المرضى وعائلاتهم. بين قاعة الفحص وقسم الاختصاصيين والإنعاش ومركب الجراحة، يتحول قسم المستعجلات إلى ساحة فوضى وسط ازدحام شديد، يصعب التحكم فيه، مريض ملقى على كرسي متحرك لم يتبق منه إلا الهيكل، وآخر ينتظر دوره لدخول مكتب المعاينة، وآخر يحاول إيقاف دماء رأسه التي يبدو أنه نجا بأعجوبة من موت محقق. قلة التجهيزات ونقص الأطباء والممرضين يزيد حدة الوضع بجناح طب المستعجلات بالمستشفى، لتبقى الأطر في الواجهة أمام احتجاجات المواطنين المطالبين بحقهم في العلاج، دون أدنى تدخل من الإدارة التي تراقب في صمت وتترك الأطر الطبية تواجه مصيرها لوحدها. أحد المرضى والذي يبدو عليه الوهن، قال في حديثه ل»اليوم24» إنه «قدم إلى قسم المستعجلات منذ الساعات الأولى للصباح بعد أن أصيب بنوبة ربو، لكنه لم يتمكن من الدخول إلى الطبيب إلا بعد ساعات من الانتظار»؛ وأضاف «بعد أن كشف على حالتي ووخز إبرة في يدي مع تمكيني من الأكسجين الصناعي، طلب مني بعض التحاليل المستعجلة، والتي أغلبها خارج المستشفى»، مسترسلا «ها أنا ذا أنهيت التحاليل بسرعة وعدت إلى طابور الموت أنتظر أن يحين دوري ثانية». من خلال دردشتنا مع عدد من المرضى وذويهم، عبروا عن عدم رضاهم عن الخدمات المقدمة، خصوصا في هذا القسم الذي يستقبل مئات المرضى التي تستدعي حالتهم التدخل السريع لإنقاذ حياتهم، فبعضهم اعتبر أن نقص الطاقم الطبي الذي يشرف على الحالات يتسبب في انتظار لساعات ليراك الطبيب، فيما اعتبر البعض الآخر أن سوء التنظيم والمعاملة و»قانون الغاب» الذي يحكم هذا القسم يجعل من أصحاب المال و»المنحرفين» يحجزون لنفسهم مكانا قبل الحالات المستعجلة. الأقسام الأخرى ليست أفضل حالا من قسم المستعجلات، في أحد الأقسام حيث يرقد عشرات المرضى في أسرة مهترئة تكسوها طبقات من الأوساخ ودماء النزلاء القدمى، تسمع فقط أنين المرضى يتردد بين جدران القاعة، مرافقنا الذي يعمل بالمشفى علق على شكل اصطفاف المرضى بكونه يشبه علبة عود ثقاب، وزاد أن الداخل لهذه القاعة مفقود والخارج منها مولود، موضحا «أنه بالرغم من جهود بعض الممرضين والأطباء للاعتناء بالمرضى، غير أن الاكتظاظ يجعل من المهمة صعبة جدا، فهناك من يصل دورهم إلا بعد أيام مع أن جميع الحالات هنا تحتاج إلى الرعاية»، يقول المتحدث. وحسب أحد المرافقين لمريض يرقد بنفس القاعة والذي كان في زيارة له، فإن «المستشفيات المغربية هي التي تزيد المريض مرضا والمعافى يخرج بعقد وعدوى من كل شيء»، وأضاف أن «قريبه يرقد بالمشفى منذ أزيد من شهرين ينتظر أن يصله الدور لإجراء عملية على الكلي»، مسترسلا أن «الأطباء أكدوا على خطورة وضعه وأنها حالة مستعجلة، إلا أن كل المواعيد محجوزة ودوره لازال بعيدا». ويضيف المتحدث ذاته خلال حديثه مع «اليوم24»، «في بادئ الأمر رفضوا أن يرقد بالمستشفى بدعوى أنه لا توجد أسرة، لكن بعد تدخل أحد أقربائنا الذي يعرف طبيبا هنا استطعنا أن نحجز له مكانا»، مشيرا إلى أنه «بالرغم من أنه يرقد في مستشفى ومن المفترض أن تكون هناك عناية طبية، إلا أن حالة قريبي تزداد سوءا مع مرور الوقت»، وتابع بعد أن صمت لبرهة «قد يموت هنا قبل أن يصله الدور». نقص في المعدات من بين المشاكل التي تطفو على السطح بين الفينة والأخرى في مستشفى ابن سينا، النقص في المعدات والتجهيزات وفي الموارد البشرية، حيث قال أحد الأطباء العاملين بالمستشفى، إن المستعجلات بالإضافة إلى الأقسام الأخرى تعاني «نقصا حادا في التجهيزات والموارد البشرية من الأطباء والممرضين»، مشيرا إلى أن «تزايد المترددين على المستشفى من شمال المغرب وجهة الرباط، يجعل من الصعب تلبية جل حاجيات المرضى في الوقت نفسه». المتحدث ذاته ضرب مثلا بالقسم المخصص لمرضى الربو، والذي يعرف عددا من المشاكل والاختلاف بسبب قلة التجهيزات، إذ يضطر المريض إلى انتظار مريض آخر ليسعف نفسه، وهو ما يتسبب في الكثير من المشاكل، قد تؤدي في بعض الأحيان إلى اختناق ووفاة المرضى، مشيرا إلى أن الطاقم الطبي المشتغل في القسم حاول التواصل من الإدارة من أجل تجهيز هذا القسم، والذي يعتبر من أكثر الأقسام التي عليها الطلب وتشتغل دون توقف، لكن لم تكن هناك أي مبادرة بهذا الخصوص. بالإضافة إلى هذا القسم، هناك نقص كبير في بعض الأجهزة في أجنحة وأقسام أخرى بالمشفى، فمثلا بالنسبة لقسم العظام، فهو لا يتوفر على الجهاز الذي يقيس ضغط ودقات المريض الذي يكون في حالة حرجة، إذ يقول أحد الأطباء أن في كثير من الأحيان يتوفى المرضى دون أن يعلم الطبيب المشرف عليهم، ويتم اكتشاف ذلك بالصدفة، مشددا على أن هذا الجهاز يمكن الطبيب من مراقبة المرضى الذين يكونون في حالة حرجة، وهذا يسرع من تدخله في حالة تعرضوا لنوبة أو مضاعفات. إلى جانب المعدات، يعرف المستشفى الأشهر في المملكة نقصا حادا في الممرضين، حيث قال المصدر ذاته إنه في بعض الأقسام يوجد ممرض لكل ثلاثين مريض، وهو الأمر «المرعب»، حيث لا يستطيع الممرض الاعتناء بالمريض أو معرفة حاجياته، بسبب الاكتظاظ ونقص الأطر، مشيرا إلى أن عددا من المرضى تسوء حالتهم بسبب قلة العناية، وشدد على أن الوزارة عليها أن تجد حلا لهذا المشكل لأنه يهدد حياة المواطنين. وتابع المتحدث ذاته أنه «من بين المشاكل التي يعانيها المشفى أيضا، أنه المستشفى الوحيد الذي يبقى في قسم الجراحة يعمل بعد السادسة مساء، حتى المستشفيات الخاصة يتوقف بها هذا القسم، مما يفرض صعوبة على الطاقم الطبي الذي يعمل بهذا القسم، خصوصا إذا كانت هناك حالات من المستعجلات تحتاج تدخلا جراحيا»، يقول المصدر، وأضاف «رغم مجهودات الطاقم الطبي، غير أنه لا يتم إسعاف جميع الحالات، وهو ما يتسبب في بعض الأحيان في الوفاة». في قاعة الانتظار «رغم أن حالته مستعجلة، إلا أنه لا يمكن أن نحجز له موعدا قبل شهور من الآن»، يقول أحد الأطباء، ويضيف «نعلم أن هذا غير منصف، وأن المرض لا ينتظر صاحبه، لكن ما باليد حيلة، هناك نقص مهول في الأطر الطبية والمعدات والإقبال على المشفى كبير»، مشيرا إلى أنه «في بعض الأحيان يتم التعامل مع بعض الحالات الاستثنائية، لكن تبقى حالات معزولة وعلى المريض أن ينتظر دوره إلى أن يحين». المواعيد البعيدة التي يضربها الأطباء للمرضى بالمشفى، تجعل المريض يفكر ألف مرة قبل أن يقصد المستشفى الحكومي، لكن مصاريف المستشفيات الخاصة تقسم ظهر المواطن مما يضطره للعودة إلى لائحة الانتظار التي قد تصله وقد يسبقها الأجل. إحدى السيدات اللواتي التقيناهن في المشفى تحكي ل»أخبار اليوم» عن معاناتها مع الانتظار حتى يحين دورها، قائلة إنها «أصيبت بمرض خبيث في العظام، لكن بعد الكشف عنه طلب منها الانتظار ستة أشهر إلى أن يحين دورها، كي تتمكن من أن تحجز لنفسها مكانا داخل المستشفى»، وتسترسل وعلامات الحزن بادية على ملامحها أنها «بعد الخروج من المستشفى، قصدت مستشفى خاصا، لكنها لم تستطع الاستمرار في العلاج نظرا للمصاريف الباهظة، خصوصا وأنها لا تتوفر على التأمين الصحي». وأضافت «وصل دوري قبل أسابيع، لكني أشعر أن الموت يتربص بي وأني أضيع وقتي ووقت الأطباء وأبنائي». الوساطات! يشتكي المواطنون الذين يقصدون المستشفى الجامعي من الوساطات، حيث أكد عدد ممن تحدثنا معهم أن حقوقهم تهضم بسبب الوساطات، وأن الوساطة هي التي تسرع بالعلاج، وإن لم يكن لك كتف تستند عليه فستبقى هناك تتعفن دون أن يأبه أحد لحالك، أحد المواطنين الذين التقيناهم في المستشفى قال في حديثه ل»أخبار اليوم»، إنه حين يمرض أحد من ذويه، أول ما يفكر فيه البحث عن شخص يعرفه بالمستشفى، لأنه يعلم أنه لو قدم بدون توصية لن يسعفه أحد، وأضاف «هنا في المغرب يتاجر في كل شيء حتى في حياة الناس، وأنه في كل الإدارات الأمور تتيسر بالهاتف». الرأي ذاته عبر عنه أحد الأطباء الذين تحدثنا إليهم، حيث أكد أن المستشفى يستشري فيه فساد كبير من حيث الوساطات، والعلاج بحسب رتبة معارفك، مضيفا أن «المواطن البسيط هو وحده الذي يواجه قدره والقوانين والمواعيد التي لا ترحم، أما من له وساطة فيجد دائما يدا رحيمة تنقذه وتعيده للحياة». المتحدث ذاته قال إنه بالإضافة إلى الوساطات، تستشري الرشوة بشكل كبير في بعض الأجنحة، منها جناح المستعجلات والجناح الخاص بالشواهد الطبية، مشددا على أن هذا الواقع يعيشه الأطر الطبية بشكل يومي. غياب الأمن بالإضافة إلى قلة المعدات والظروف الصعبة التي تعيشها الأطر الطبية، فإن هذه الأخيرة تعاني غياب الأمن، نتيجة الاعتداءات المتكررة لبعض «المنحرفين» على عدد من الأطباء والممرضين، حيث إن حالات الاعتداء أصبحت تتكرر في الآونة الأخيرة، وذلك بسبب عدم متابعة الموقوفين وإطلاق سراحهم بعد مدة قصيرة من الحبس. مصدر نقابي تحدثنا إليه قال إن الأطر الطبية يهددون بالسيوف، ويتعرضون للسرقة والسب والقذف داخل ردهات المشفى، حيث أوضح أن الأمر أصبح اعتياديا داخل هذا القسم وحتى الأقسام الأخرى، مشيرا إلى أنه تم رفع عدد من العرائض وتنظيم وقفات في هذا الصدد، لكن لم يتم اتخاذ أي إجراء بهذا الخصوص من طرف إدارة المشفى. وأكد المصدر ذاته أن عمل الأطباء والممرضين في هذا الجو المشحون يؤثر على مردوديتهم، خصوصا بالنسبة للإناث اللواتي يتعاملن بحذر مع المرضى وذويهم تجنبا لأي سوء تفاهم يؤدي إلى تشنج أو اعتداء، وتابع أن الطبيب المناوب في بعض الأحيان يضطر إلى اختيار الحالات حسب صعوبة وضعيتها الصحية، حيث تكون الأولوية لمرضى الذين يكونون في حالة حرجة ويحتاجون تدخلا طبيا فوريا، لكن حسب المتحدث هذا يدفع البعض إلى الاحتجاج بشكل فوضوي قد يتحول إلى تشابك بالأيدي مع الطاقم ويصل إلى حد الاعتداء.