بعض الكتاب لم يكن لديه بيوت يأوي إليها، عاش في غرف فنادق، أو جائلاً من مكان إلى آخر. البعض الآخر امتلك قصورا وإقامات واسعة أو ورث من عائلة "الحسب والنسب". لكن، هل للبيت علاقة بالأدب وبالنبوغ، أم هو مجرد عنوان على الانتماء الطبقي للكاتب والأديب؟ لو آمنا بنظرية الانعكاس في الأدب، لقلنا لا بد أن تتسرب الكثير من أشياء الواقع ودوران عجلة الحياة إلى عوالم الكتاب، يشبه الأمر علاقة "الكساء النباتي" بترابه ومائه وهوائه. يدّعي الشاعر الشيلي بابلو نيرودا، أنه شيد بيته مثل لعبة، وهناك "كنت ألعب من الصباح إلى المساء". لا يجب أن ننسى أن نيرودا كشاعر كبير ومشهور، كان عنده إحساس فظيع أنه محسود على "بحبوحة" العيش التي يحيا فيها. وهو على النقيض تماماً من غابرييل غارسيا ماركيز، الذي عاش فترات من حياته متنقلا في أنحاء أوروبا هاربا من ديكتاتورية العسكر في بوغوتا. بيوت كثيرة لهؤلاء الكتاب تحوّلت إلى متاحف وطنية، نذكر من بينها بيت الشاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو، الذي كان يقول إن مسكن الشاعر الحقيقي هو أدبه وفنه. وهذا ما دفع مثلا، فيلسوفا مثل غاستون باشلار، صاحب "جماليات المكان" إلى القول: "البيت ليس مجرد فضاء، إنه حالة روحية". وبالتالي، يطرح السؤال: هل البيت هو ذلك المكان الذي نحجّ إليه أم يتجاوز ذلك إلى حضور رمزي وثقافي؟ الشاعر العربي، الذي كان مترحلا على راحلته، اعتبر البيوت حنيناً مضافاً، أقواه الحنين إلى أول منزل. ربما سيتغير هذا المعنى، مع نعمة الاستقرار، وتصبح لبيوت "الكتاب" العرب بعدا سلطوياً في أزمنة الأمويين والعباسيين والأندلسيين، حسب درجة القرب أو البعد من السلطان. لكن في الثقافة الأوروبية، سيكتسي البيت رمزية أخرى، إنه مجال للعيش والإبداع والاستقبالات، وربما ضرورة صحية، كما هو الحال بالنسبة إلى غوستاف فلوبير، الذي كان يعاني الروماتيزم، حيث اشترى والده بيتا في منطقة كروازيت، وهناك في الدور الأول من هذا البيت الفسيح كان مكتب الكاتب، عبارة عن غرفة شاسعة، مضاءة بخمس نوافذ، ثلاث منها تطل على الحديقة، ومكتبة وكنبة للقيلولة أو للنوم، ومحابر وأوراق وريشات كتابة، كان يفضلها أن تكون من ريش الإوز، ففلوبير كان يكره الكتابة بريشة المعدن كرهاً شديدا.(ماذا لو عاش معنا اليوم، حيث لا أحبار ولا أوراق ولا ريشات). غير أن الأمر كان مختلفاً بالنسبة إلى الكاتبة الفرنسية جورج ساند، هي على النقيض من فلوبير، فقد جاءت على سبيل الاستكشاف من باريس إلى جارجيليس، كما تروي ذلك في مذكراتها. كان الترتيب أن تقضي بضعة أيام هناك، لكن الأيام امتدت إلى سنوات، ماذا سحرها في هذا المكان؟ تلخص ذلك بكلمة واحدة "النظافة"، زيادة على منظر غروب الشمس "حيث كل شيء في موعده ليكون خلاباً". لكن الشاعر آرثر رامبو، يقدم لنا تعليلا آخر في الثورة على البيوت، فمنتهى التفاهة أن يتشبث الواحد بوجود زائل. وهو منذ أن غادر شارلوفيل عاش مترحلا وهاربا. حتى محاولته اليائسة شراء بيت لم تتم بنجاح، فولى وجهه صوب عدن، حالما بالثروة، وعاقداً صفقات سلاح فاشلة، قبل أن يعود أدراجه إلى شارلوفيل مريضا بساق واحدة، كي يموت في حضن أمه وأخته، لينهي مسار هروبه الشاق. غير أن بيت طفولته في شارلوفيل، سيطبع حياته، فهناك تفتقت عبقريته الشعرية. سيكتب في تلك المرحلة المبكرة من عمره "أزهار الشر" و "فصل في الجحيم"، قبل أن يترك الكتابة ويرحل. وفي سنة 2004، احتفت بلدية شارلوفيل بالذكرى 150 لميلاد الشاعر، ودشنت بيت رامبو، حيث توجد لوحة نحاسية مكتوب عليها "هنا عاش آرثر رامبو". أما في حالة تولستوي، فقد تحول بيته الكبير، الذي ورثه عن العائلة، إلى متحف بعد وفاته. واحتراماً له ولمكانته الأدبية، لم تؤممه الثورة. ظل في ملكية زوجته إلى أن رحلت. وهو مفتوح اليوم، للعموم في مقاطعة تولا، البعيدة عن موسكو بحوالي 130 كيلومترا. وفيه توجد كل متعلقات الكاتب، وعائلته الأرستقراطية: المكتبة، مكتب الكاتب، غرفة الطعام، قاعة الاستقبال، غرفة الطبيب، اللوحات، البورتريهات، غرف الأبناء، فقد أنجب الرجل 13 ولداً. هذا هو ليو تولستوي صاحب "الحرب والسلام" و"أنا كارنينا"…. أما بالنسبة إلى بيوت الكتاب العرب وأهل الفن، فتلك قصة أخرى في ظل مطالبات ونضال مرير بوضع "اعتباري" للكاتب العربي لم يتحقق منذ "استقلالات" الأوطان، إلى تلفها الآن.