شكّلت سنة 2017 استمرارا لأسلوب الخطب الملكية الجديد، والقائم على لغة مباشرة وقوية. فبعد شهور البلوكاج الطويلة وما رافقها من تأجج للاحتجاجات الشعبية التي عرفها حراك الريف؛ استأثر خطاب العرش لهذه السنة باهتمام خاص. الخطاب لم يبتعد عن السياق، لكنه خاطب الأحزاب السياسية والإدارة العمومية بقسوة كبيرة. وانطلق هذا الخطاب الملكي من تشخيص مفاده أننا "نعيش اليوم في مفارقات صارخة، من الصعب فهمها أو القبول بها. فبقدر ما يحظى به المغرب من مصداقية، قاريا ودوليا، ومن تقدير شركائنا، وثقة كبار المستثمرين، ك"بوينغ" و"رونو" و"بوجو"، بقدر ما تصدمنا الحصيلة والواقع، بتواضع الإنجازات في بعض المجالات الاجتماعية، حتى أصبح من المخجل أن يقال إنها تقع في مغرب اليوم". مفارقة قال الملك إنها تزداد حدة بين القطاعين الخاص والعام، "فالقطاع الخاص يتميز بالنجاعة والتنافسية، بفضل نموذج التسيير، القائم على آليات المتابعة والمراقبة والتحفيز، وبين القطاع العام، وخصوصا الإدارة العمومية، التي تعاني من ضعف الحكامة، ومن قلة المردودية. فالقطاع الخاص يجلب أفضل الأطر المكونة في بلادنا، والتي تساهم اليوم في تسيير أكبر الشركات الدولية بالمغرب، والمقاولات الصغرى والمتوسطة الوطنية .أما الموظفون العموميون، فالعديد منهم لا يتوفرون على ما يكفي من الكفاءة، ولا على الطموح اللازم، ولا تحركهم دائما روح المسؤولية". الإدارة والأحزاب والحراك الملك قال في خطابه الذي سيتحول إلى أرضية لإصلاح شامل تعتزم الحكومة القيام به، إن من بين المشاكل التي تعيق تقدم المغرب، ضعف الإدارة العمومية، "سواء من حيث الحكامة، أو مستوى النجاعة أو جودة الخدمات، التي تقدمها للمواطنين. وعلى سبيل المثال، فإن المراكز الجهوية للاستثمار تعد، باستثناء مركز أو اثنين، مشكلة وعائقا أمام عملية الاستثمار، عوض أن تشكل آلية للتحفيز، ولحل مشاكل المستثمرين، على المستوى الجهوي، دون الحاجة للتنقل إلى الإدارة المركزية. وهو ما ينعكس سلبا على المناطق، التي تعاني من ضعف الاستثمار الخاص، وأحيانا من انعدامه، ومن تدني مردودية القطاع العام، مما يؤثر على ظروف عيش المواطنين". عند تطرّقه إلى موضوع الحراك الاجتماعي في الريف، قال الملك إن تلك الأحداث أبانت "عن انعدام غير مسبوق لروح المسؤولية. فعوض أن يقوم كل طرف بواجبه الوطني والمهني، ويسود التعاون وتظافر الجهود، لحل مشاكل الساكنة، انزلق الوضع بين مختلف الفاعلين، إلى تقاذف المسؤولية، وحضرت الحسابات السياسية الضيقة، وغاب الوطن، وضاعت مصالح المواطنين". وذهب الخطاب الملكي إلى أن "بعض الأحزاب تعتقد أن عملها يقتصر فقط على عقد مؤتمراتها، واجتماع مكاتبها السياسية ولجانها التنفيذية، أو خلال الحملات الانتخابية. أما عندما يتعلق الأمر بالتواصل مع المواطنين، وحل مشاكلهم، فلا دور ولا وجود لها. وهذا شيئ غير مقبول، من هيآت مهمتها تمثيل وتأطير المواطنين، وخدمة مصالحهم". وضع قال الملك إنه يضطر القوات العمومية للوقوف في وجه المواطنين، "فتحملت مسؤوليتها بكل شجاعة وصبر، وضبط للنفس، والتزام بالقانون في الحفاظ على الأمن والاستقرار. وهنا أقصد الحسيمة، رغم أن ما وقع يمكن أن ينطبق على أي منطقة أخرى. وذلك عكس ما يدعيه البعض من لجوء إلى ما يسمونه بالمقاربة الأمنية، وكأن المغرب فوق بركان، وأن كل بيت وكل مواطن له شرطي يراقبه". انتصار للأمن فبعد الجدل الكبير الذي أثاره تقرير للمجلس الوطني لحقوق الإنسان حول تعرّض نشطاء حراك الريف للتعذيب؛ حمل الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى عيد العرش، رسالة دعم قوي للأطراف الأمنية المعنية بتدبير هذا الملف. الخطاب الملكي وبعدما خلص إلى تسجيل تراجع الأحزاب السياسية وممثليها، عن القيام بدورها، "عن قصد وسبق إصرار أحيانا، وبسبب انعدام المصداقية والغيرة الوطنية أحيانا أخرى قد زاد من تأزيم الأوضاع"، عاد ليقول إنه و"أمام هذا الفراغ المؤسف والخطير، وجدت القوات العمومية نفسها وجها لوجه مع الساكنة". هذا الخطاب الملكي جاء بعد مواجهة علنية ومباشرة بين مؤسستين رسميتين، هما المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمديرية العامة للأمن الوطني. هذه الأخيرة أصدرت مستهل يوليوز الماضي، بلاغا ناريا مباشرة بعد تسريب مضامين تقرير للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، خلص فيه طبيبان متخصصات إلى أن ادعاءات تعرض نشطاء الريف المعتقلين للتعذيب، ذات مصداقية. المديرية قالت حينها إنها ترفض بشكل قاطع "الاتهامات والمزاعم الخطيرة الموجهة لمصالحها وموظفيها، والتي أوردها البعض بصيغة الجزم والتأكيد، استنادا إلى وثيقة جزئية منسوبة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، تم تسريبها خارج الإطار الرسمي بكيفية مشوبة بالتجاوز". الخطاب الملكي ردّ بشكل مباشر على الآراء التي تعتبر أن السلطات تستعمل مقاربة أمنية في تدبير حراك الريف، وقال إنه و"عكس ما يدعيه البعض من لجوء إلى ما يسمونه بالمقاربة الأمنية، وكأن المغرب فوق بركان، وأن كل بيت وكل مواطن له شرطي يراقبه. بل هناك من يقول بوجود تيار متشدد، وآخر معتدل، يختلفان بشأن طريقة التعامل مع هذه الأحداث. وهذا غير صحيح تماما. والحقيقة أن هناك توجها واحدا، والتزاما ثابتا، هو تطبيق القانون، واحترام المؤسسات، وضمان أمن المواطنين وصيانة ممتلكاتهم". الزلزال وفيما شكّل خطاب ذكرى 20 غشت الأخيرة استثناء هادئا في سلسلة الخطب الملكية، عاد محمد السادس في الدخول السياسي الأخير إلى لغته القوية والمباشرة. "إننا نريدها وقفة وطنية جماعية، قصد الانكباب على القضايا والمشاكل، التي تشغل المغاربة، والمساهمة في نشر الوعي بضرورة تغيير العقليات التي تقف حاجزا أمام تحقيق التقدم الشامل الذي نطمح إليه". هذه هي العبارات التي تلت إلقاء الملك محمد السادس يوم الجمعة الثانية من أكتوبر الماضي، تلك الكلمة التي تردّد صداها طيلة الأيام اللاحقة، أي "الزلزال السياسي". الملك الضامن لحسن سير المؤسسات والممثل الأسمى للدولة وصاحب الكلمة الفصل في الشؤون العليا والاستراتيجية للوطن، يعلنها من أعلى منصة البرلمان بمناسبة افتتاح السنة التشريعية، ويلوّح بالزلزال السياسي. "ندعو للتحلي بالموضوعية، وتسمية الأمور بمسمياتها، دون مجاملة أو تنميق، واعتماد حلول مبتكرة وشجاعة، حتى وإن اقتضى الأمر الخروج عن الطرق المعتادة أو إحداث زلزال سياسي"، يقول الملك في خطبته الأخيرة. حديث الملك جاء في سياق إعلانه من جديد وبلغة صريحة، فشل النموذج التنموي الذي اعتمده المغرب على مدى السنوات الماضية. "إذا كان المغرب قد حقق تقدما ملموسا، يشهد به العالم، إلا أن النموذج التنموي الوطني أصبح اليوم، غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحة، والحاجيات المتزايدة للمواطنين، وغير قادر على الحد من الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات المجالية، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية"، يقول الخطاب الملكي، مضيفا أن "النموذج التنموي مهما بلغ من نضج سيظل محدود الجدوى، ما لم يرتكز على آليات فعالة للتطور، محليا وجهويا". أستاذ العلوم السياسية، عبد الإله السطي، قال إن فهم طبيعة مضمون عبارة "الزلزال السياسي" الذي تضمنه الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح السنة التشريعية، يتطلب وضعه في سياقين، الأول عام والثاني خاص. "السياق العام هو أنه منذ اعتلاء الملك محمد السادس للعرش، وخطاباته سواء الموجهة للشعب أو الموجه للبرلمانيين، تتضمن نفسا إجرائيا ومؤسسا للسياسات العمومية. وبالتالي هي ليست خطابات فقط للتواصل، ولكن خطابات منشئة لقرارات تهم في غالب الأحيان التدخل من أجل تقويم سياسة عمومية مختلة، أو من أجل تصحيح مسار مؤسسة تدبيرية معينة، أو من أجل بلورة إصلاحات سياسية تهم قطاعات بعينها". أما السياق الخاص الذي جاء فيه الخطاب الملكي الأخير، فيتمثل حسب السطي في كونه جاء في مرحلة ما بعد خطاب العرش الأخير. "هذا الخطاب قدم تشخيصا بنفس نقدي حاد للوضعية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بالمغرب، وهو التشخيص الذي توقف عند مجموعة من الاختلالات في تدبير الشأن اليومي للمواطن، التي ترتب عنها تفاقم العديد من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، كانت من أهم مسبباتها بروز العديد من المطالب المجتمعية، كأحداث الحسيمة وما كشفته من هشاشة في التدبير المحلي، والاستجابة لانتظارات وحاجيات المواطنين في شتى المجلات والخدمات التي تتكفل بها الدولة". السطي يؤكد أن خطاب افتتاح البرلمان هو مجرد استمرار لمحاولات إيجاد الحلول والبدائل للاختلالات المترتبة عن فشل السياسات التنموية، التي تم نهجها حتى الآن. "والتي تتحمل وفق مضمون الخطاب مسؤوليتها الرئيسية، المؤسسات الحكومية والجماعات الترابية التي لم تستطع بلورة حلول واقعية لتفادي تراكم الإشكالات التي يعانيها المواطن". دفاعا عن إفريقيا النبرة القوية والنقدية في الخطب الملكية لم تقتصر على تلك المناسبات التي توجه فيها إلى الشعب، بل شملت بعض المناسبات الدولية والإقليمية أيضا. فقبل نحو شهر، قدم الملك محمد السادس مرافعة إفريقية في افتتاح الدورة العاشرة من مؤتمر السياسة الدولية الذي ينعقد حاليا بمراكش. الرسالة الملكية التي تولى إلقاءها المستشار الملكي ياسر الزناكي، خصصت بشكل كامل لإفريقيا، والتي تحولت إلى محور قار في الخطب والرسائل الملكية في المنتديات الدولية، قالت: "لقد ولى الزمن الذي كانت فيه إفريقيا قارة موصومة بالسلبية، معقدة من محيطها، لتظهر كقارة إفريقية واعدة ومتحفزة وتلتزم وتتعهد بالتزاماتها، لتحل محل قارة خاضعة ومستكينة". وأضاف الملك محمد السادس أن الأوان آن لإعادة رسم الأولويات الاستراتيجية للمجتمع الدولي "على ضوء ما أصبحت تقدمه القارة الإفريقية. فاعتبارا للتطورات الحديثة، وللخطوات التي خطتها القارة الإفريقية نحو الأمام، والمعترف بها، أصبح من الضروري أن يسمع صوت قارتنا، وأن تصبح متمركزة في خريطة سياسية دولية بعد إعادة تصميم معالمها". الرسالة الملكية قالت إن إفريقيا انفتحت على شراكات متعددة الأبعاد، شملت المجالات المؤسساتية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وكذا المجالات المتعلقة بالتصدي للتطرف، ومكافحة الإرهاب. "فبضم الرصيد الذي وفره التعاون شمال-جنوب إلى التجارب التي اكتسبتها مختلف الأطراف، يستطيع أصحاب القرار بناء تعاون أقوى، وأكثر واقعية، وخاصة أكثر عدلا وإنصافا. وفي هذا الاتجاه، تتخذ الشراكة الجديدة شمال-جنوب إجراءاتها".