يفصلنا عن نهاية العام 2018 يومان فقط، لنستقبل بعدهما سنة جديدة، يتطلع جميعنا لأن تكون أفضل من سابقتها، من حيث الأمن والأمان والاستقرار وراحة الضمير. ولأن التاريخ شاء أن ننتمي إلى منطقة جيواستراتيجية بالغة الأهمية والتعقيد والحساسية في الآن معا، وأن ننتسب إلى منظومة حضارية وثقافية مغايرة بمقوماتها ومكوناتها، فقد شعر الكثير منا، إن لم يكن كلنا، بأن عوامل القلق وأسباب التوتر أكثر وأعمق مما هو متاح لنا من إمكانيات الفرح وشروط السعادة.. بل يذهب الكثير منا إلى الخوف من المستقبل والمقبل من الأعوام. لننظر إلى ما يجري في المنطقة العربية ونُقارن بما هو حاصل في مختلف بقاع العالم، كي نعي، دون شك، أن بلداننا نشاز بكل المقاييس، وأن من الصعوبة العثور على نظير لها، من حيث حدة الصراع وقوة الدمار في كل أرجاء العالم. كثيرا ما كان يُنعت "النظام العربي": بالضعف والترهّل وفقدان الفعالية على صعيد أولوياته وقضاياه الكبرى. أما اليوم، فأصبح عسيرا علينا إيجاد نعت مطابق لما آلت إليه أوضاع منطقتنا.. كنا سابقا نُرجع حروب بلداننا إلى "الآخر"، الذي صمّم على تقسيمنا، واستغلال ثرواتنا، وإشاعة الفتن بيننا. أما اليوم، ومنذ خطاب أوباما الشهير عام 2011، أصبحنا نقود الحروب الدائرة بيننا، أو على الأقل أصبح جزء من دولنا يتولى إشعال الحروب، والإمعان في التدخلات، وتأجيج الفتن بكل أشكالها.. كما غدت ثرواتنا تتبدد بسخاء بأيدينا، دون أن نعي بأننا نصادر حقوق أجيالنا المقبلة. والأخطر في ما استجد ويستجد في منطقتنا أن ما كنا نعتبره "ثوابت الأمة"، والقواسم المشتركة التي لا رجعة فيها، بدأت تدخل دائرة المراجعة، والتشكيك، وفقدان اليقين، ولا يُعرف على وجه الدقة في أي اتجاه ستسير أوضاعنا؟ تبدو منطقتنا العربية، وهي تودع عام 2017 مُثخنة بالجروح، فاقدة عناصر القوة، ومرشحة لأن تدخل عديد بلدانها دائرَة الفشل، وربما لأن "يخرج العرب من التاريخ"، على حد تعبير الشاعر "أدونيس". لننظر إلى ما جرى و يجري في البلاد العربية على امتداد العقدين الأخيرين، ولنحكم على ما آلت إليه أوضاع مجتمعاتنا، وإلى أين نسير؟ لنُمعن النظر مثلا إلى كيف ينظر العرب إلى أنفسهم، وكيف يتعاملون مع أبناء جلدتهم. فقد عاشت مجتمعات المنطقة عقودا من الزمن متجانسة ومتسامحة، على الرغم من كثرة عناصر الفُرقة والاختلاف. لم يكن للطائفية، أو العصبوية، أو الصراع العقدي، أو أي شكل من أشكال الاختلاف في الدين أو المذهب أو اللغة أو الجنس أي تأثير سلبي على حياتهم الجماعية، كما لم يكن أي خطر على وحدة كياناتهم.. ففي المشرق ظلت الطوائف والديانات والقبائل والعشائر متعايشة ومتسامحة، ولم يحدث أن نشبت حرب أهلية أو اندلعت فتنة تحت أي مسمى من هذه المسميات.. بل أثبت التاريخ وجود فصول طويلة من العيش المشترك، على الرغم من الطابع القهري للسلطة في الكثير من الدول. كما لم يحصل أن كان الدين سببا من أسباب الانقسام، وحرب البعض ضد البعض الآخر، وسيلة ل "شرعنة القتل العمد"، الفردي والجماعي، كما حصل في السنوات الأخيرة ومازال مستمرا أمام أعين العالم، ومبثوثا على أكثر مواقع التواصل الاجتماعي ترددا وقراءة. أما في بلدنا المغرب، فنتطلع لأن يكون العام الجديد أفضل من غيره، وأن يستمر بلدنا آمنا ومستقرا، وأن تعم العدالة الاجتماعية ربوعه. كما نأمل أن تتعمق الديمقراطية أكثر في ثقافة مؤسساته ومكونات مجتمعه، وأن نبني أكثر ونُراكم أفضل الممارسات في سيرورة بناء المواطن والمواطنة الفعلية. يتطلع أغلبنا، مع بداية حلول السنة الجديدة (2018) لأن نقطع مع ثقافة الإساءة للواجب، وللمصلحة العامة، وللولاء للوطن، تحت أي مسمى وباسم أي اعتبار.. إن حاجتنا ماسة إلى أن نحافظ على متطلبات العيش المشترك، ونتجنب كل ما من شأنه أن يعرض مقوماته للإضعاف أو الفتنة.. إن عملية تحصين الدمقرطة وتعميقها وزرع روح العدالة الاجتماعية، وردم الفجوات بين الجهات والأقاليم، وبين مكونات النسيج الاجتماعي، تعتبر من الضمانات الحقيقية لاستمرار بلدنا آمنا ومتراصا، وقادرا على رفع التحدي، وتجاوز الصعوبات، والنهوض من الكبوات.