في أروقة فندق قصر المامونية، المنحدرة أصولها من فصول قصص ألف ليلة وليلة، والمزخرفة بأبدع ما أنتجت الحضارة المغربية الأندلسية؛ التأم على مدى ثلاثة أيام أكثر من 300 خبير وأكاديمي ومسؤول سياسي. ثلاث كلمات مفتاح ترددت طيلة أيام وليالي الأربعاء والخميس والجمعة الماضية، بين قاعة الندوات ونافورات المياه المتدفقة والحدائق التي شكلت في الأصل «عرصة المامون» التي تحولت إلى هذا القصر الباذخ: المغرب، إفريقيا، وأمريكا اللاتينية. مركز التفكير، التابع للمكتب الشريف للفوسفاط، وقّع نسخته السادسة من منتدى «حوارات أطلسية»، في سياق يتسم بخروج دبلوماسي واقتصادي كبير للمغرب نحو القارة الإفريقية. المركز هو أحد أذرع القوة الناعمة للمكتب المدبر لأكبر ثروة طبيعية في المغرب، والذي تحوّل في السنوات الأخيرة إلى سفير متجوّل فوق العادة للمغرب في شرق وغرب وجنوب القارة السمراء. الإرهاب الزاحف الدورة السادسة من «حوارات أطلسية» افتتحت بالنسخة الرابعة من التقرير السنوي الذي يصدره المركز، والمعروف باسم «تيارات أطلسية». التقرير يتناول إشكاليات الأمن والاستقرار والهجرة في القارة السمراء، مع نظرة نحو قارة أمريكا الجنوبية. وهيمنت دقات جرس الإنذار الأمني على أصداء التقرير، الذي أحصى أكثر من 12 ألف عملية إرهابية شهدتها إفريقيا خلال العقد الممتد بين 2006 و2015. هذا النشاط الإرهابي يتخذ وتيرة تصاعدية، حيث عرف العام 2015 ما يزيد على 3 آلاف عملية إرهابية مقابل 271 عملية في العام 2006. التقرير يتحدث عن إحصاء ما يزيد على 52 ألف مقاتل في صفوف التنظيمات الإرهابية المنتشرة في إفريقيا حاليا، ويقول إن العمليات الإرهابية تزايدت منذ العام 2006 بنسبة 1000%، أي أنها تضاعفت عشر مرات. منطقة الساحل والصحراء، الممتدة في العمق الاستراتيجي للمغرب، تعتبر إحدى أكثر المناطق ارتباطا بهذا التهديد الأمني والعسكري الذي بات يخيم على القارة السمراء، خاصة مع انطلاق عملية الانتشار الدولية للتنظيمات الإرهابية التي كانت تتمركز في كل من سوريا والعراق. أحد أبرز المتحدثين الذين تطرقوا إلى هذه الإشكالية، كان المكلف بمهمة في الديوان الملكي، الوزير المنتدب في الخارجية سابقا يوسف العمراني، الذي أكد ضرورة تضافر الجهود وتنسيق الاستراتيجيات الدولية من أجل معالجة إشكالية الأمن في منطقة الساحل. العمراني الذي كان أحد المتدخلين في الجلسة الرابعة من جلسات المنتدى، قال إن «الأشرار» يتوفرون على استراتيجية ورؤية خاصة بهم، فيما تفتقر الدول والهيئات الدولية إلى هذه الرؤية. العمراني أوضح أن كلا من القاعدة وداعش يتوفران على استراتيجيات، «وعلينا بدورنا أن نتملك الأدوات الضرورية لمواجهتهم». العمراني جدد التذكير بالرؤية المغربية القائمة على مواجهة الإرهاب مواجهة شاملة، لكنه لم ينس التعريج على إشكالية اتحاد المغرب العربي الذي يوجد في حالة شلل، معتبرا أن هذا الوضع يفسر عجز المنطقة عن مواجهة التحديات، خاصة منها الأزمة الليبية التي قال إنها كانت ستجد طريقها إلى الحل لو كان الاتحاد المغاربي فعالا. من جانبه، الجنرال البريطاني المتقاعد نيك باركر، الذي اقتسم الجلسة نفسها التي حضرها العمراني، انتقد بشدة المقاربة الأمنية العسكرية المعتمدة في الساحل، من خلال التدخلات العسكرية، الفرنسية على الخصوص، والتي توجت أخيرا بإقامة قوة «ج5» لمنطقة الساحل والصحراء. الجنرال البريطاني قال إن تعدد المتدخلين وتضارب أجنداتهم السياسية ومصالحهم يضر بالمنطقة، متسائلا حول حقيقة أهداف التدخل الفرنسي في مالي، وحول ما إذا كان تعبيرا عن هاجس أوروبي محض، أم إنها يتجاوب مع مصالح وتطلعات السكان. التدخل العسكري تحت المجهر نيك باركر شدد على أن العمل العسكري لا يفيد حين يتم بشكل معزول، إذ لا يكفي «أن تنزل بخيلك وجنودك لتحل المشكلة». وذهب باركر إلى أن ما يقلقه في هذا الأمر هو أن الجنود في مثل هذا الميدان يصبحون في مواجهة عدو غامض يختبئ بين السكان، «وفي مثل هذا الوضع لا يكفي إنزال الجنود، لمواجهة هذا العدو. فقد يتضرر السكان من ذلك، وبالتالي سينقلبون عليك». الجنرال المتقاعد قال إن الأمر يتطلب عملا مخابراتيا دقيقا وأسلحة خاصة وملائمة، ووحدات عسكرية خاصة تعمل وفق معايير أمنية خاصة. موقف نقدي شاطره أليساندرو مينوتو ريزو، رئيس مؤسسة ناتو ديفانس كوليدج، الذي قال إن نتائج التدخل العسكري ليست دائما مؤكدة، مشيرا إلى أنها قد تبدو جيدة في البداية، لكنها على المدى البعيد قد تكون كارثية. وضرب ريزو المثل بتجربة التدخل العسكري لفرنسا في مالي، والتي جاءت لحل مشكلة مستعجلة تتعلق بوقف زحف الجماعات الإرهابية، غير أنها مع مرور الوقت أصبحت محط تساؤلات كبيرة. موقف نقدي تجاه التدخل العسكري الفرنسي، رد عليه يوسف العمراني بالقول إن العملية الفرنسية في مالي، والتي دعمها المغرب، جرت تحت إشراف مجلس الأمن الدولي، «ولولاها لكانت مالي اليوم تحت سيطرة الجماعات المسلحة». من جانبه، قال الدبلوماسي الفرنسي ميشيل ديكلو إنه في حالة مالي يمكن الحديث عن ماض استعماري في علاقتها بفرنسا. «لكن هذا الماضي لم يكن الدافع المباشر وراء التدخل. بل طلب منا التدخل، وفعلنا ذلك تحت راية الأممالمتحدة وبولاية منها، أي تحت مظلة الشرعية الدولية». الدبلوماسي الفرنسي أضاف أن بلاده لم تربطها أي علاقات استعمارية بليبيا، ورغم ذلك تدخلت بتكليف من الأممالمتحدة. «حافز التدخل العسكري الفرنسي في الحالتين هو واجب ومسؤولية حماية المواطنين، والتي أقرها رؤساء الدول الأعضاء في الأممالمتحدة في 2005. غير أن الأمور لم تسر كما يجب في ليبيا». وذهب ديكلو إلى أنه لو بقي القذافي في ليبيا لكان الوضع فيها اليوم شبيها بسوريا، «لكن رغم الفوضى العارمة التي تتخبط فيها، فإن الخسائر البشرية في ليبيا أقل كثيرا بالنظر إلى عدد القتلى يوميا في سوريا. فعلى الأقل تمكننا من تجنب إزهاق العديد من الأرواح». نقطة اختلاف أخرى برزت حين طلب وزير الخارجية الإسباني السابق، أنغيل موراتينوس، الكلمة من داخل القاعة، ودافع عن فكرته التي تتردد على لسانه في جل النقاشات، والمتمثلة في إسكات المدافع والأسلحة، وإعادة الدبلوماسية إلى مكانتها السابقة. موراتينوس قال إن ما يسمح بتجاوز مشكلات من قبيل ما تعرفه منطقة الساحل، هو الدبلوماسية. فكرة سارع يوسف العمراني إلى الرد عليها، معتذرا إلى موراتينوس بالقول إنه سيختلف معه هذه المرة. العمراني شدد على أنه لا يعتبر أن الدبلوماسية غير مفيدة، «لكن العالم أصبح معقدا، وهناك عدة متدخلين، وما ينقص في الحقيقة هو التنسيق والانسجام بينهم». الزروالي: القاعدة تتحكم في طريق الهجرة نظرة مغربية أخرى حملها الوالي المسؤول عن الهجرة والحدود بوزارة الداخلية المغربية، خالد الزروالي، الذي قال إن طرح إشكالية الهجرة في صيغة أزمة أمر خاطئ، مقللا من حجم الفئة التي توجد في وضعية غير قانونية من مجموع المهاجرين. الزروالي عاد ليؤكد وجود تداخل بين الهجرة غير الشرعية والأنشطة غير المشروعة التي تقوم بها جماعات مسلحة في منطقة الساحل. «الأمر بدأ عندما شرعت القاعدة في بناء فرعها في منطقة الساحل، حيث كانت تحتاج إلى تمويلات كبيرة تقدر بمليوني دولار في الشهر الواحد. حينها بدأت في القيام بعمليات اختطاف الأجانب والمطالبة بالفدية، قبل أن يسيطروا تدريجيا على أنشطة الهجرة غير المشروعة التي باتت تمثل بقرة حلوبا بالنسبة إليهم». الزروالي قال إن كل يوم يشهد مرور حوالي 4 آلاف شخص عبر المنطقة التي تراقبها القاعدة، «وكل هؤلاء يؤدون مبالغ مالية مقابل هذا العبور، تضاف إلى مداخيل أخرى تتأتى من تهريب المخدرات وأنشطة أخرى». إشكالية جديدة تعرفها هذه المنطقة حاليا، جسدها خالد الزروالي في عودة المقاتلين من صفوف داعش وباقي التنظيمات الإرهابية. خطر قال المسؤول المغربي إنه يزداد مع موجات المهاجرين غير الشرعيين، حيث يمكن أن يقدم هؤلاء المقاتلون على التسلل وسط المهاجرين، ثم القيام بعمليات إرهابية. «هناك فضاءات لانتشار التطرف داخل مخيمات اللاجئين، وهو ما يستدعي الرصد والتتبع لإجهاض الخطط الإرهابية». وفي معرض حديثه عن التجربة المغربية، قال الزروالي إن الرباط انطلقت من فكرة مفادها أن الدولة مسؤولة عن حماية أمن مواطنيها وأمن المهاجرين الموجودين داخل ترابها. «في هذا السياق جاءت مبادرة جلالة الملك سنة 2013، الخاصة بتسوية وضعية المهاجرين الأجانب المقيمين في المغرب». المكلف بمهمة في الديوان الملكي، يوسف العمراني، قال إن إشكالية التطرف والإرهاب تتطلب الاستجابة لانتظارات الشباب وتطلعاتهم، «دون إغفال المهمة الأساسية المتمثلة في تفكيك الخطاب المتطرف وتدميره، واقتراح بديل له». وأوضح العمراني أن «الإسلام أصبح رهينة لهذا الخطاب المتطرف، والمغرب يعمل على مواجهة ذلك من خلال تجربة خاصة في مجال تكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات»، فيما اعتبر المدير التنفيذي لمؤسسة الريادة العالمية المقربة من الرئيس الأمريكي ترامب، كورت فولكر، أن المخاطر الإرهابية ستتفاقم في السنوات المقبلة، محذرا بدوره من احتمال ظهور مجموعات إرهابية أخرى، ومن إعادة انتشار المقاتلين، وإمكانية استعمال الجماعات الإرهابية عناصر موالية لها خارج منطقة الساحل، وأشار إلى أن «المساعدات الخارجية مهمة في مكافحة الإرهاب، غير أن الأساسي هو ما تعمله الحكومات المحلية نفسها داخل بلدانها». المغرب يسترجع إفريقيته خبير مغربي آخر، هو القيادي الاتحادي ووزير المالية السابق فتح الله ولعلو، قال إن المغرب حاليا يستعيد إفريقيته بفعل التحركات الملكية التي جرت في السنوات الأخيرة. «علينا ألا ننسى أن الجغرافيا عنيدة، والمغرب بلد إفريقي عربي إسلامي ومتوسطي، وتداخل هذه المجالات الثلاثة هو ما يصنع المغرب، أي أن التداخل بين المجال الأطلسي والصحراء والبحر المتوسط ما يسمح للمغرب بلعب دوره». هذا الدور الإفريقي يتم، حسب ولعلو، لصالح المغرب أولا، «ولخدمة تنميته التي تتطلب هذا الانفتاح على هذه المجالات الثلاثة، ويمكننا أن نكون أيضا عنصرا مهما لخلق تداخل أكبر بين هذه المجالات». ولعلو، الذي كان كتابه حول «المغرب والصين» ضمن الخزانة المفتوحة التي وضعت رهن إشارة المشاركين في المنتدى، حرص على التعريج على النموذج الصيني: «لنأخذ مثلا الاستراتيجية الصينية، والتي بات يطلق عليها اسم الطريق والحزام، فهي استراتيجية تعبر إفريقيا لتستهدف المتوسط وأوروبا، والمغرب يمكنه بطبيعة الحال أن يكون أحد الجسور الأساسية لهذه الاستراتيجية، خاصة أنها تعتمد الخيارات المغربية التي يحددها كل من تاريخه وجغرافيته». وزير الخارجية الفرنسي السابق، هوبير فيدرين، قال بدوره إن سؤال الدور الذي يمكن للمغرب لعبه في الاتحاد الإفريقي لا ينبغي أن يطرح أصلا، «ذلك أن هناك سياسة ودينامية مغربية انطلقت منذ عشرين عاما تجاه إفريقيا. سياسة دبلوماسية واقتصادية من خلال كبريات الشركات المغربية، وقد بدأنا نرى النتائج، حيث أصبح المغرب يعتبر شريكا من الدرجة الأولى من جانب أغلب الدول الإفريقية». دور مغربي قال فيدرين إنه لا يقتصر على المجال القريب من المغرب، مثل غرب إفريقيا والمجال الفرانكفوني، «بل أصبح الأمر شاملا، وبالتالي أعتقد أن المغرب أصبح يلعب دورا مفيدا سواء له أو لإفريقيا». باولو بورطاس، الخبير البرتغالي المتخصص في إفريقيا، قال بدوره إن المغرب بذل مجهودا كبيرا في إفريقيا «وكان للملك دور كبير في رسم هذا الطريق، للعودة إلى إفريقيا، ووضع سياسة خارجية اقتصادية من أجل إفريقيا، والعودة إلى الاتحاد الإفريقي، وهو بالتالي اليوم حالة لا يمكن تجاهلها للاستقرار». حالة جسدها الخبير البرتغالي في كون المغرب مجتمعا شابا بالدرجة الأولى، «وبلد له تأثير كبير خاصة في إفريقيا الغربية. والأهم في حالة المغرب أنه يقدم قصة مختلفة يمكن حكيها، قصة نجاح واستقرار، بدل الاكتفاء بقصص الاضطراب والحروب الأهلية والانقلابات وخرق الدساتير. بل بات بالإمكان الحديث عن أن إفريقيا فهمت أن الاستقرار السياسي والأمن القانوني يؤسسان لتنافسية وجاذبية تجاه الاستثمار. وإذا فهم المستثمرون أن الاستثمار في إفريقيا هو من النوع الذي يتم على المدى البعيد، وأن عليهم نقل وتقاسم التكنولوجيا مع دولها، والمساعدة في تكوين أطرها، فإننا سنكون أمام قصة نجاح استثنائية». إفريقيا في مرآة أمريكا اللاتينية دورات منتدى «حوارات أطلسية» تتسم بخصوصية تجعلها تسعى إلى أن تعطي فكرة العلاقات الأطلسية بعدا جنوبيا، بين إفريقيا وأمريكا اللاتينية، بدل الفكرة المهيمنة عن العلاقة بين أوربا وأمريكاالشمالية. دورة هذه السنة شهدت حضور عدد من الرؤساء السابقين لدول أمريكا اللاتينية، والذين استعرضوا تجارب بلدانهم وما قد تحمله من فائدة للدول الإفريقية. الرئيس الأرجنتيني السابق، إدواردو دوهالدي، أسهب في شرح معاناة بلاده خلال فترة الحرب الباردة، حيث تحولت، على غرار دول أخرى في أمريكا اللاتينية، إلى دكتاتورية عسكرية خاضعة لنفوذ الولاياتالمتحدةالأمريكية. إدواردو دوهالي قال إنه وبعد عشرين عاما من انهيار جدار برلين ونهاية الحرب، «فككنا الدكتاتوريات، وتحولنا إلى ديمقراطيات. وحاليا لدينا رؤساء منتخبون دمقراطيا». وذهب الرئيس الأرجنتيني السابق إلى أن هناك دينا في عنق أمريكا اللاتينية تجاه إفريقيا، يعود إلى فترة استقدام العبيد من إفريقيا للخدمة في أمريكا اللاتينية. من جانبه، قال ميغل أنخيل رودريغيز إشيفيريا، الرئيس السابق لكوستا ريكا، إن فرص التعاون كبيرة بين إفريقيا وأمريكا الجنوبية، خاصة في مجالات الطاقة والفلاحة والصناعة والأمن والدفاع. وقدم رودريغيز مثال بلاده، التي قال إنها عانت بسبب ارتفاع المديونية في الثمانينات، الشيء الذي جعلها تخضع لتوصيات واشنطن، «سئمنا تلك التوصيات، واخترنا التحول إلى منطقة حرة للتصدير، ونجحنا في استقطاب الاستثمارات في الصناعة والأنشطة التكنولوجية المتقدمة، بالإضافة إلى تطوير السياحة بالاعتماد على الموارد الطبيعية التي عملنا على