بعد رواية "الموريسكي" التي صدرت باللغتين العربية والفرنسية، يعود الكاتب الروائي، حسن أوريد، إلى الأندلس، ليستقي من رجالات تاريخها وشخصياتها البارزة موضوع روايته الأخيرة الموسومة ب"ربيع قرطبة"، التي صدرت، في الآونة الأخيرة، ضمن منشورات المركز الثقافي العربي في 159 صفحة من الحجم المتوسط. إذ تقوم هذه الرواية على فكرة بسيطة مستمدة من سيرة الخليفة الحكم بن عبد الرحمان الناصر، الملقب بالمستنصر بالله، لكن تنسج حكايتها العميقة انطلاقا من منظور الخليفة إلى الدولة والحكم. "ربيع قرطبة" ليست مجرد رواية، لكنها نظرية تطرح، عبر المخيال وتقنيات الكتابة الأدبية، منظورا خاصا لخبايا تدبير الدولة وفنون تسيير أمور الشعب. بلا شك، اختار أوريد، بغية طرح هذا الموضوع، واحدا من أقوى ملوك الدولة الأموية في الأندلس، الحكم المستنصر بالله، كبطل لروايته، على اعتبار أن الرجل تمَلك رؤية متفردة إلى مسايرة عصره وتدبير دولته التي ورثت أقوى الأجهزة وأعتى الأسلحة. في هذه الرواية، لا يحدثنا أوريد – عبر السارد الذي هو الحكم نفسه – عن عشق الخليفة للعلم والعلماء، ولا عن الكتب في مكتبته الخاصة التي عجت بما يزيد عن 400 ألف عنوان، ولا عن الجهد الكبير الذي بذله في سبيل المكتبات والجامعات والجوامع، وإن كان يشير بين الفينة والأخرى إلى هذه الأمور. بل يقصر حكايته على "سؤدد الملك وصولة السلطان"، كأننا به يريد أن يفترض أن الحاضر ما هو إلا صفحة من صفحات الماضي، وأن تعثرات اليوم كامنة جذورها في الماضي البعيد والقريب. فالرواية، التي يحيل عنوانها على "الربيع العربي" الذي شهدته بلدان عربية عديدة قبل بضع سنوات، تمثل مساهمة في النظرية السياسية حول الحكم، لكن عن طريق الأدب، وإن كانت تستند إلى التاريخ لتروي لنا مجريات الأحداث داخل القصر وخارجه من علاقات بين أفراد الأسرة الحاكمة وصراعات ضارية بين الحاشية، وحروب مع الدول المجاورة وعمران وتمدن، إلخ. فالغرض الأساس، كما يتبدى من خلال السرد، يتبدى من خلال كون العمل في حد ذاته يروم تقديم الرؤية إلى الحكم من الداخل، لا كما تمثله العامة من الناس، بل كما يتصوره الخليفة نفسه؛ باعتباره يقوم على شخصية مزدوجة: "كان أول درس لي في هذا اللقب الذي كنت أحمله، ولي العهد، ولهذه الأمانة التي سوف أتقلدها، خليفة المسلمين، أن أعيش حياتين، وأدبر أمرين متضاربين في نفسي، وأتعايش مع هذا التمزق طوال عمري…". يريد السارد، من خلال التوقف عند هذه الازدواجية، أن يسلط الضوء على أمر أساس مفاده أن الحكم لا يستقيم إلا بالقوة والعنف، وأن السلطان لا يستمر في المكان والزمان إلا إذا كان القتل وظيفته الرئيسة (ص 12)، وكلما كان حد السيف وسيلته الأولى (ص. 16). فالقتل والذبح والإعدام جزء من ثقافة السلطان، لأن سلطته لا تستتب، وهيبة دولته لا تتأتى إلا بالقمع. غير أن السارد – أي الحَكَم – لا يقدم نفسه في صورة جلاد فقط، بل يضفي على نفسه مسحة إنسانية، وهو يصف ما ينبغي أن تكون عليه السلطة والدولة من تسامح وتعايش. إذ تنعكس هذه التيمة في الرواية من خلال حالة التعايش الكبير الذي كان سائدا في الأندلس، حيث يعتبره السارد السر وراء ازدهار إمبراطوريته. يقول في هذا السياق: "كان على الحَكم… أن يدرك أنه أمير على العرب والبربر والقوط والمولدين والمسلمين والمسيحيين واليهود قاطبة". ولعل اختيار هذا النهج الإنساني هو الذي جعل الحَكم يعي أن "الحكم ليس غاية مهما كانت وسيلته". من هنا، تكتسي رواية "ربيع قرطبة" أهمية خاصة في المتون الأدبية المغربية الأخيرة التي اعتمدت التاريخ موضوعا وأداة لها في الكتابة. كما تكتسي قيمة بالغة في متون أوريد، الذي يسعى من خلال مشاريعه الروائية الأخيرة أن يرسم معالم ما يسميه ب"الشخصية المغربية"، محاولا استقصاء نشأتها وتطورها في المكان والزمان.