صحيح أن ديننا الحنيف ينهى عن الغش وينكر أصحابه، ولعله لا أحد يغيب عنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "من غشنا فليس منا"، ويدعو عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة إلى الصدق والوفاء والأمانة، منها قوله عليه السلام "أد الأمانة إلى من إئتمنك ولا تخن من خانك"، وغير ذلك كثير، حتى إن الدارس ليستطيع بقليل من الجهد جمع منظومة أخلاقية متكاملة في هذا الاتجاه، ولكن أين نحن من هذه الشريعة الغراء، وما الذي أوصلنا إلى هذه الحالة؛ حتى صارت وزارة تقود حملة ضد الغشاشين، ووزارة تقود حملة ضد المرتشين، ووزارة تقود حملة ضد أشباه الموظفين، ووزارة ضد المتنفذين المتسلطين وهكذا... هل نظن ما تقوم به وزارة التربية الوطنية خصوصا في قضية محاربة الغشاشين حلا لمشكلة شديدة التعقيد مثل التعليم؟ هل يظن المشرفون على هذا القطاع أن هذه الإجراءات قادرة على إعادة الاعتبار للمنظومة التربوية. لعمرى إن هذا لمحال محال! الغش أيها السادة ظاهرة مجتمعية، وحلها لن يكون إلا من خلال خطة مجتمعية متكاملة، فقد صار اليوم بنية متغلغلة في أوصال المجتمعات العربية والإسلامية ومنها المغرب، بل إن الغش صار قوتا يوميا يقتات منه الكثير، ومن الطبيعي أن هذا الكثير الذي يعيش من (خيراته) سيكون من أقوى جيوب المقاومة عند انطلاق الإصلاح. يكفي أن يقوم الواحد منا بجولة عبر مختلف مناشط الحياة، وليبدأ يومه من البقال الذي يشتري منه حليب الصباح وخبز الصباح، إذا أمعن النظر سيجد حليبا ولبنا غير مصفى، سيجد خبزا غير مكتمل الوزن أو غير محترم للدقيق المعتمد، سيجد علبة سردين صارت جيفة بعد انتهاء الصلاحية، سيجد ما شئت من العجائب والغرائب حتى يكمل قائمة المطالب... تناول فطوره وقصد حرفيا من الحرفيين ليصنع له كساء أو طاولة أو حذاء أو ما شئت، أنظر إلى عمله وما فيه من خلل وغش، وأنظر إلى قائمة الكذب التي يسيجك بها من كل جانب، طبعا لا نعمم الكلام، فلا يخلوا مجتمع من شرفاء، ولكن إذا كثر الخبث عم الفساد ونامت الأمم. إن ما يجري اليوم من مظاهر فساد ليحتاج من الحكومة الحالية، وقد رفعت هذا الشعار، مقاربة متكاملة تشرك فيها مؤسسات الدولة أولا، ثم تدفع المجتمع المدني إلى التحرك وفق خطة محكمة، بعد أن تشرك في إعدادها الجميع، وليكن صبرنا على النتائج قرين صبر أيوب، فقد يحتاج منا الأمر جيلا كاملا، وقد يحتاج منا أكثر من ذلك، نشغل فيه كل المداخل (المدخل التربوي، والنفسي، والثقافي، والاجتماعي، والقانوني ...) فإن بقي من الفساء معالم وآثار ف"إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، فمن كنا معه بعد ذلك في حاجة إلى الجزر والردع كانت وسائلنا الردعية له بالمرصاد. أما أن ندخل في مقاربة واحدة وحيدة دون غيرها (المقاربة الأمنية) فلن يكون وراء الأمر طائل. عند التفكير بشكل جاد فإن أبعد ما يمكن أن تحققه مثل هذه الحملات أمران، تحقيق التساوي في الفرص، والحفاظ على مصداقية شهادتنا الوطنية عالميا. وليس بعد الأمر شيء. من كل ذلك أحسب أن ثلاث وزارات أساسا هي الأولى بالانطلاق في هذا المشروع وفق استرتيجية واضحة محددة متكاملة، هي وزارة الأوقاف، ووزارة التربية الوطنية، ووزارة الثقافة. فالأولى تملك الفضاء والوسائل التي تستطيع من خلالها القيام بتنزيل برنامج متكامل عبر مؤسساتها المتعددة لتنخيل سلوك المجتمع، والثانية تملك عقول الناشئة بين يديها طاقما عريضا واسعا تستطيع التعاون معه إذا أحسنت الظن والتواصل، وحققت الوضوح اللازم، وتملك كذلك إعادة مراجعة برامجنا الدراسية بما يخدم هذا الهدف العظيم، ووزارة الثقافة تملك أن تعيد تنقية مجالنا الثقافي بتشجيع كل ما له علاقة بهويتنا وأصالتنا، والكف عن دعم ما يغرب أو يشرق بهذه الثقافة. الخلاصة أن الحل أمام أعيننا وليس بيننا وبينه إلا قرار سياسي حازم، وعزمة أكيدة من السادة الوزراء، بعيدا عن منطق الالتفاف حول المشكل دون الدخول إليه.