من يطلع على بيانات وزارة التربية الوطنية هذه الأيام، يعتقد أن نصف مليون مغربي خرجوا من بيوتهم للتظاهر وليس لاجتياز امتحانات الباكلوريا! عدد التلاميذ الذين اعتقلوا في اليوم الأول للمباريات يفوق عدد من أوقفوا خلال تظاهرات ال20 من فبراير، والسبب واحد: الغش في الامتحانات. من الواضح أن وزير التربية الوطنية دق طبول الحرب، وقرر أن يشعلها «نار حمرا» ضد الغشاشين، ويطاردهم أكاديمية أكاديمية، مدرسة مدرسة، طاولة طاولة، ورقة ورقة... كما تناقل بعض التلاميذ الظرفاء، مشبهين حرب الوفا بمعركة معمر القذافي على ثوار ليبيا، وساخرين من الشبه الكبير بين الوزير والعقيد، على أكثر من صعيد. الدخول المكثف للبوليس على خط الامتحانات يمكن أن يوقف الغشاشين، لكن من المستحيل أن يصلح المنظومة التربوية. واهم من يظن أن اجتثاث الغش من الثانويات يمكن أن يمر عبر المحاكم وتفريق المراهقين على الزنازين، لأن المدرسة في النهاية مجرد «مجتمع صغير»، يعكس ما يروج في المجتمع الأكبر، والهواء الفاسد الذي يملأ حجرات الدرس ورئات التلاميذ يأتي من الخارج. الحزم الذي تظهره الحكومة في الضرب على أيدي الغشاشين بين أسوار الثانويات ينبغي أن نراه في الإدارات والمؤسسات العمومية وشبه العمومية، التي ينخرها الفساد من كل جانب، لأن التلميذ الذي يمرر «نقلة» إلى زميله في الفصل ليس أخطر من المسؤول الذي يمرر إلى صديقه صفقة عمومية بملايين الدراهم، دون أن يزعجه أحد. عندما نقضي على الغشاشين الكبار، سيختفي الغشاشون الصغار تلقائيا من أقسام المملكة... ومن الصعب تحديد أيهما الأسبق البيضة أم الدجاجة: هل انهيار النظام التعليمي في المغرب هو الذي أدى إلى تفاقم الغش في كل شيء أم إن تفشي الغش في كل شيء هو الذي نخر نظامنا التعليمي؟ على كل حال، نحن أيضا كنّا نغشّ في الامتحانات، ومازلنا نغشّ في كل مناحي الحياة: في العمل والانتخابات، والميزان والميزانيات، والبرلمان والبلديات، والقضاء والوزارات، وفي قانون السير والعلاقات الزوجية والعائلية والإنسانية... وطبعا، مازلنا نجرّم الغش في الكلام والخطب والشعارات والتلفزيون، ونردّد أمام الصغار بنبرة حازمة: «من غشّنا فليس منا». ولسنا منافقين، ولكننا «مغاربة» ! الجديد في القضية أن الغشّ تطور من الهواية إلى الاحتراف، مستفيدا من وسائل الاتصال الحديثة، هكذا انتقلنا من عصر «التحناش» و«التحراز» ونسخ الدروس على مناطق مختلفة من الجسد، و«التآزر» الماكر بين التلاميذ بتواطؤ من المراقب، إلى النقل باستعمال الآيفون والآيباد والكيتمان وتسريب الأسئلة عبر فايسبوك وتويتر... مع دخول النقود على الخط، وظهور شبكات منظمة تسرب الامتحان وتجني من وراء ذلك آلاف الدراهم، كما تفعل شبكات المخدّرات وتبييض الأموال والأفعال. نحن كنّا مجرد غشاشين هواة، نغافل أستاذ التربية الإسلامية كي ننقل بعض الآيات البيّنات أو نستغلّ تساهل المراقب كي نمرّر إلى بعضنا البعض حلول المعادلات الرياضية المعقّدة في أوراق مكتوبة بخط متناهي الصغر، كما أن معظم أساتذتنا كانوا متفانين في عملهم، ببذلاتهم المخططة وربطات عنقهم وضميرهم المهني الذي أصبح «مرفوعا» و»مستترا» لدى الجيل الجديد. مشكلة المدرسة ليست في غش التلاميذ، بل في النظام التعليمي الذي أنهكته المخطّطات الفارغة ونخرته الحلول الترقيعية. أيام الدراسة كنا نعشق الإضرابات، التي نفجر فيها حنقنا على كل شيء. كنا نخرج في تظاهرات صاخبة ونحن نردد: «هذا التعليم الطبقي واولاد الشعب فالزناقي»... وقتها لم أكن أعرف المغزى الحقيقي للشعار، لكنني عندما وصلت إلى العاصمة قادما من مدينتي النائية، فهمت كل شيء. رأيت مغاربة فوق، يبعثون أبناءهم إلى مدارس البعثة والمدارس الخاصة كي يصقلوا ذكاءهم ويطوروا مهاراتهم ويكملوا تعليمهم في أكبر مدارس وجامعات العالم، لينتهوا مدراء ووزراء وموظفين سامين... ورأيت مغاربة تحت، يسلخهم المدرسون ويشتمون آباءهم وصحون مطابخهم، يضيّعون نصف السنة في الغياب ونصفها الآخر في دراسة «الحوجلة» «وتعكّر ماء الجير» و«زيت كبد الغدس»... لينتهوا حراسا وسائقي تاكسيات ولصوص حافلات، والمحظوظ الذي يكمل تعليمه الجامعي يقضي عمره معتصما أمام البرلمان. لذلك لا أملك أكثر من الابتسام كلما سمعت مسؤولا يتحدث عن «تكافؤ الفرص» في «المملكة السعيدة». «أبناء الشعب» الذين «يصلون»، يشبهون عداء يجري «الماراثون» وعندما يدرك خط الوصول، يجد نفسه مجبرا على خوض سباق آخر، في مائة متر هذه المرة، مع عدائين قضوا حياتهم يستعدون للسباق. كل عام ينطلق آلاف البسطاء من المغرب العميق، في سباق «ماراثون» طويل؛ وقبل أن يلتقطوا أنفاسهم، يجدون أنفسهم في سباق السرعة الفائقة مع متنافسين قضوا أيامهم وهم يتدربون على المسافة، ومع ذلك يحتل كثير منهم مراتب مشرفة في السباق... تلك هي عبقرية «الفقراء» !