إن كان هناك شيء يمكن أن يفتخر به من تولوا شؤون هذا البلد، ويكتب في صحائف أعمالهم فهو قدرتهم الهائلة على إنتاج جحافل تغلق عين الشمس من الغشاشين في كافة المناحي والمجالات. هذا بالطبع لم يكن بالأمر السهل، بل احتاج ذلك إلى العمل الدؤوب على قدم وساق ليل نهار من أجل هذه «الحسنة». كما أنه لم يكن عمل يوم وليلة، بل احتاج إلى ما يفوق الخمسين سنة من العمل «الخبيث» والماكر، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه من حال لا نحسد عليها. فمن تولى التسيير والتدبير كان أول شيء جد فيه واجتهد هو إنتاج منظومة محبوكة تجعل من يعمل خارجها، وفي واضحة النهار، بكد وجهد وعرق جبين شبيها بالأحمق الذي يصب الماء في الرمل، ويصير مسخرة للذاهب والآتي، فيوصف ب«الكانبو» وما إلى ذلك من أوصاف. هكذا وفي ظل هذا الواقع الموبوء صارت الكفاءات والمنافسة الشريفة آخر ما يفكر فيه وآخر المقاييس لاستقدام المواطن للانضمام إلى كوكبة العاملين بسواعد من حديد وبقلب صاف سليم كالحليب من أجل نهضة هذا الوطن الذي لا مجال فيه للمزايدة. لقد غدت ثقافة «الغش» و«التمقليع» هي الشهادات لقبول هذا وإقصاء ذاك. وهذا ليس خيالا، بل واقعا نعيشه منذ أن اجتاح الغشاشون مجالات مختلفة من الحياة: في الثقافة والاقتصاد والسياسة وهلم جرا. وهنا يكمن الخطر و السرطان الذي بات يهدد البلاد. فما هكذا تؤكل الكتف يا صاح. ثقافة الغش ليست وليدة اليوم، بل هي غائرة في ذات المغاربة، ولا يفلت منها إلا من رحم ربي، وذاك الذي اختار مجابهة انحطاط القيم بأخرى عالية اكتسبها لوحده واعتمادا على إمكاناته الذاتية، فأصبح، هو الذي اختار تلك القيم و«المثل العليا»، كأنه في حرب يومية يخوضها في كل دقيقة وثانية على مختلف الجبهات. إذ يندر أن تجد من يتعامل في حياته اليومية دون غش، لذا تجدنا نحتاط دائما من بعضنا البعض، ولا نطمئن حتى لو أقسمنا لبعضنا البعض بالأيمان الغليظة والمغلظة! فبالرغم من معرفتنا بأن الغش حرام ومنهي عنه في ثقافتنا الإسلامية ونردد الحديث النبوي الشريف: «من غشنا فليس منا»، فإن ذلك يبقى مجرد لازمة تلوكها الألسن. الناس عندنا يذهبون إلى المساجد يوميا خمس مرات في اليوم، وفيها أصحاب دبلومات وشواهد دراسية مختلفة، لكنهم لم يستطيعوا أن يتخلصوا من هذه الثقافة. إننا نجد الجزارين يغشون، والخضارين يغشون، وبائعي الدجاج، أصحاب المقاهي، وأصحاب العقار... كل في صف واحد كما يفعل التلاميذ في الامتحانات، لدرجة أن هذا الأمر أصبح يؤرق الجميع كلما حل هذا الوقت، فأصبحنا نتهيأ لها وكأننا سنواجه حربا، مع العلم أن «ظاهرة الغش» التي ابتلينا بها لا يمكن أن نقضي عليها حتى إن استنفرنا كل الوسائل والأجهزة. إن المرض آت من تلك المنظومة التي جعلت كل غش أمرا «بطوليا» يستحق التصفيق، فلو بنينا مواطنين مؤمنين بالقيم العليا، وفتحنا لهم الأبواب للاندماج في المجتمع اعتمادا على إمكاناتهم وكفاءاتهم الحقيقية، لا لأشياء أخرى، لكنا تفادينا كل هذا السرطان الذي يسري في جسد الوطن وينهكه رويدا رويدا، حتى يقضي عليه. تيقنوا أنه إن فعلنا ذلك لن نحتاج إلى كل هذا «التجييش»، فالمواطن إن تربى في مجتمع سوي سينتج مواطنا مثاليا لن يفكر في «الغش» حتى لو كان وحيدا في غرفة مغلقة. إذن نحن في حاجة إلى إنتاج ثقافة بديلة، يعمل الجميع على تكريسها انطلاقا من البيت وفي أي مؤسسة.. فرجاء لا تجعلونا غشاشين إلى يوم القيامة..هناك ثقافة بديلة، وليلعب الجميع في واضحة النهار، ومن يستحق الفوز نصفق له كما نفعل في كرة القدم.