ليس الموت نهاية كل شيء، بل تستمر العلاقة بين المومنين بين حيهم وميتهم، علاقة دعاء واستغفار وترحم حيث علمنا ربنا أن نقول:"ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا. ربنا إنك غفور رحيم" وتعلمنا في دعاء الجنائز "اللهم إنه عبدك بن عبدك ناصيته بيدك اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه وإن كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته، اللهم لا تفتنا بعده ولا تحرمنا أجره واغفر لنا وله" وكذلك من العلاقة إنفاذ ما يعنيه من وصايا صالحة خيرة، وتتميز العلاقة مع الأموات بحسب مقامهم ودرجاتهم تماما كما تكون مع الأحياء، فللعلماء والدعاة والمصلحين قدرهم ومنزلتهم من الذكر الحسن ومن بث علمهم النافع. وقد قرأت الوصية التي تركها الشيخ عبد السلام ياسين رحمه الله فوجدتها سليمة صحيحة ليس فيها ما يعاب، ولتوقيتها في زمن الشيخ حيث كانت آخر ما صدر عنه، فيمكن أن يعتبر ما كان فيه مقال أو ملحظ مما كتبه أو صرح به و يخالف ما في هذه الوصية منسوخا وفي حكم رجوع الشيخ عنه، كما فعل العلماء مع تراث أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى حيث اعتبروا ما جاء في إبانته ناسخا لما كان قبلها وأوبة منه إلى منهج أهل السنة والجماعة. فقد طلب رحمه الله في وصيته الدعاء من المومنين لرجل "ثاوٍ في قبره أسير لذنبه راج عفو ربه" فرحم الله "عبداً لله وأمة لله دعا الله بقلب خاشع لمن انقطع عمله إلا من الثلاث المرجوة. عسى الله أن يلحقنا فضل دعائكم جزاكم الله خيرا." وأوصى بالإحسان بالوالدين، وبإقامة الدين، والشورى، واعتبر الحكم دينا من الدين، وأوصى بالتوحيد ونبذ الشرك، وعدم قتل الأولاد ماديا ومعنويا، وعدم قرب الفواحش، وعدم قتل النفوس بغير حق، والحفاظ على مال اليتيم، وتقوى الله في الكيل والميزان، والعدل والوفاء بعهد الله، وإتباع الصراط المستقيم وعدم اتباع السبل المضلة، والثبات على الدين والموت على الإسلام، والحذر من الارتداد وقتل المسلمين بعضهم بعضا، وحذر من المسيح الدجال، وأن نمسك عن دماء المسلمين وأموالهم إذ هي علينا حرام، وأن نصون أعراض المسلمين. وأوصى خيرا وعناية بالصلاة وصلاة المسجد والجماعة، وأوصى خيرا بالنساء. وأوصى من يسمع ويعقل بالإنصات والتحفز والتوفز لطاعة الأمر العلي كلما صدع داعي الله وصدح: يا أيها الذين آمنوا، وأوصى" كل ذي همة يقظة أن لا يكون له من دون وجه الله عز وجل مطلب يحجبه عن الله. طلب الثواب والأجر والجنة شرع من الشرع. وإرادة وجه الله، والسعي إلى مرضاة الله بما يرضي الله ويقربنا من الله مرمى الهمم العالية. بشرط العمل الدائب والنية المتجددة." وأوصى أن العدل قرين الإحسان "فلا يُلهنا الجهاد المتواصل لإقامة دولة العدل في أمتنا عن الجهاد الحثيث لِبلوغ مراتب الإحسان." ولا مدخل في هذا المضمار "إلا بصحبة تفتح أمامكَ و أمامكِ المغالق وتحدو بركبك إلى عالم النور والرقائق." فأوصى رحمه الله بالصحبة والجماعة (وكررها مرارا)، مؤكدا على ضبط العواطف والمواجيد بالشريعة حيث قال:" لا تطغ جذبة سابح في الأنوار على شريعة قول الله عز وجل: ﴿ واتمروا بينكم بمعروف﴾." وأوصى بذكر الله في الملاء والخلاء.وأوصى بالصدق مع الصادقين صبرا ومصابرة وحملا وتحملا.وأوصى باقتحام العقبة والهمة العالية، وأوصى بالبذل والصدقة والحرص الدقيق على أداء الزكاة، وأوصى بطلب العلم النافع لدين الناس ودنياهم، وأوصى بالعمل الصالح، والسعي لجمع شتات الأمة وبناء وحدتها لَبِنة لبنةً حتى يرتفع صرح الخلافة على منهاج النبوة، وأوصى بسمت الإسلام في الأخلاق والمظهر والمخبر، وأوصى بالتؤدة والحكمة، وبالاقتصاد توجها سليما، وبالجهاد في سبيل الله جهاد القوي الذي لا يعنُف، الرفيق الذي لا يضعُف. وأوصى بالصبر على قضاء الله وقدره وقال في آخرها"ولا تنسونا من دعائكم أحسن الله إليكم واستودع الله إيمانكم وخواتم أعمالكم.." فهذه وصايا نفيسة وجليلة وعظيمة لم يكن للشيخ رحمه الله غير فضل نقلها وتبليغها وتبيينها والتذكير بها وجمع الناس عليها وحثهم على اتباعها والاستقامة عليها وهو فضل كبير وخير كثير، وإلا فهي عين منطوق القرآن الكريم ومفهومه وعين توجيه السنة وإرشادها، فالرجل دل الناس على الله وعلى طريق الله وعلى ميزان القبول والرضى الرباني، والمسؤولية بعد ذلك على من بعده أن يحكموا ذلك الميزان فيما يفعلون وما يذرون، بل ويزنون به أيضا اجتهادات الشيخ فيما ليس فيه نص صريح صحيح في الكتاب والسنة، تطبيقا للقاعدة الذهبية"كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر" إشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فوجب على الأحياء الحذر من الافتتان واستحضار ما يقال في آخر الدعاء"اللهم لا تفتنا بعده.." والتاريخ يحكي لنا أشكالا من الفتن وقع فيها الناس بعد موت أصحاب الرسالات والدعوات الإصلاحية بتدرج إبليسي رهيب ينقل الناس من مكر إلى الذي يليه، فمعروفة قصة قوم نوح وما حدث لهم مع ود وسواع ويعوث ويغوق ونسر حيث لم يكونوا غير قوم صالحين غالى فيهم الأتباع حتى جعلوهم أصناما، وما حدث لأتباع عيسى عليه السلام معروف ومشهور حتى قالوا ببنوته لربه وألوهيته، وما كاد يحدث من فتنة لعمر رضي الله عنه لولا تثبيت وتذكير أبي بكر رضي الله عنه له بقوله تعالى"وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ" ولعل ما نراه في الشيعة من غلو في أئمتهم وما نراه من مبالغة بعض الطرق الصوفية في مشايخها ممن أفضوا إلى ربهم، وما يفعله العوام مع قبور الأولياء والصالحين، يجعلنا نخاف من كل خطوة ولو كانت صغيرة في أفق ذلك الاتجاه البعيد، وقد نجح إخواننا في العدل والإحسان أن واروا جثمان الفقيد وسط قبور المسلمين، وأملنا أن لا يجعلوا من روحه ضريحا تعقد له المواسيم في كل عام. نعم، تراثه مبسوط للعالمين، والإفادة حق مكفول للمحبين، ولكن ضمن ثلة المصلحين ممن أكرم الله بهم هذه الأمة في قديم تاريخها وحديثه، وضمن فقه واقع وأحداث متجددة، ومع تقدم الزمن تبقى المراجعة والنقد لتراث الشيخ لازم وحتمي، فالرجل وجد أمامه شيوخا سابقين في الحركة والتربية، ولاحظ جفافا تربويا عند بعض الحركيين، وانزواء عن هموم الأمة عند بعض التربويين، فأبدع طريقا جديدا يجمع فيه بين التربية والحركة وهموم الأمة وما نسميه بالشأن السياسي وقضية الدولة والخلافة، واجتهد في أسلوب المواجهة، وأبدع في التنظيم والتجميع حول الفكرة والمنهاج، وإن لم نكن بعده مبدعين ومجددين لزماننا وقضايانا ومشكلاتنا كما أبدع وجدد لزمانه وقضاياه ومشكلاته ولم تمنعه هالة الشيوخ قبله، فلن نكون غير مقلدين ومرددين وسوف نسير حينها حتما إلى النفق المسدود. صنع الرجل بتوفيق الله مجده، وظهر ذلك جليا في جنازته وكثرة أعماله وكتبه واتساع أتباعه وحسن ذكره، وما فعله لبنة لبناء صرح هذا الوطن وهذه الأمة، غير أن مجدهما لم يحن بعد ولم يكتمل المشروع، فليصنع كل واحد منا مجده شريطة أن يكون لبنة في المشروع العام، ولنعمل عمله أو قريبا من ذلك أو أحسن منه ولنمت على ما مات عليه من الخير أو أفضل منه، وبطريق ومنهج فيه إبداع وتجديد لحفظ وصيته رحمه الله في إقامة الدين وإصلاح الفرد وإصلاح المجتمع وتهيئ الظروف والأجواء لخلافة راشدة على منهاج النبوة أو الولاياتالمتحدة الإسلامية على منهاج النبوة. وقد سرني تأكيد الإخوة في العدل والإحسان على مد أيديهم للآخرين من الإسلاميين و"الفضلاء" الديموقراطيين للعمل على إصلاح الأوضاع، ولا شك أن هذه الأمنية تحتاج إلى مرونة أكبر واجتهاد مستمر وعدم الجمود على قوالب جاهزة ومواقف مسبقة ولو كانت من اقتراح ورأي الشيخ رحمه الله، فوصيته ركزت على الثوابت والأسس التي هي في الغالب قواسم مشتركة بين المصلحين والعاملين في الساحة الإسلامية، وترك تفاصيل تدبير المشروع للأجيال القادمة ممن يقتنعون بالعمل في إطاره، فما ينبغي عمله والتعاون عليه بين الخيرين في الأمة كبير وكثير، على مستوى الأفراد: كالعلم النافع، والإيمان الراسخ، والعمل الصالح، والدعوة والإصلاح، والبذل والتضحية، وعلى مستوى المجتمع والأمة:كالأصالة والإسلام، والشورى والديموقراطية، والتنمية والعمارة، والعدالة والعدل، والوحدة والاتحاد، ثم على مستوى القيم العابرة لما سبق كالتوحيد والإخلاص، والأخوة والتعاون، والقوة في الخير، والجودة والإحسان، والتوبة والتجديد المستمر، والله غالب على أمره وهو يتولى الصالحين المصلحين.