تعتبر قضية التعليم من القضايا التي تشغل الرأي العام المغربي، و التي أفاضت أقلام الباحثين و المهتمين بالحقل التربوي، و ذلك لمحورتيها و مركزيتها في بناء مجتمع راشد تسوده قيم المواطنة الحقة و الإيجابية ؛ مجتمع قادر على تحقيق التنمية في كافة مستوياتها . فالتعليم هو الركيزة الأساسية لأي مشروع نهضوي، حتى إن ساستنا يعتبرونه القضية الوطنية الثانية بعد الوحدة الترابية ، ووجب فعلا أن يكون كذلك حقيقة، فقوة الدول و تطورها تقاس بمدى احترامها لأسس الديمقراطية و الحكامة، و قدرتها على بناء اقتصاد قوي و تنافسي و كذا بنجاعة منظومتها التربوية. و المتتبع لواقع حالنا، تترسخ لديه قناعة بأن الموضوع اكتسى طابع الموسمية، فكلما حان موعد الامتحانات الاشهادية (خاصة البكالوريا ) و نهاية الموسم الدراسي، أو اقترب موعد الدخول المدرسي ،أو الجامعي إلا أطل علينا الوزير ليقدم معطيات عن الإجراءات و التدابير المصاحبة لعملية الامتحانات...أو ليعطي أرقاما و إحصاءات عن بداية الموسم الدراسي.... ليطل بعده السياسيون و النقابيون و الباحثون كل من موقعه بين مؤيد و معارض، و ما إن تمر الأيام الأولى ( 7 أيام ديال الباكور) حتى يخبو النقاش و يخرج منه تعليمنا بخفي حنين، فلا اتفاق على تشخيص الأوضاع، و لا إجماع على ضرورة إطلاق نموذج تعليمي مغربي أصيل إلا من باب المزايدات السياسية أمام عدسات الكاميرات...،كما أن هذا النقاش الموسمي يعرف طابعا خاصا إذا ما وردت كلمة تعليم في خطابات أعلى هرم الدولة، أو وجهت التوصيات و التوجيهات السامية في هذا الشأن ليكثر اللغط و القيل و القال و يخرج علينا من يرى في الدارجة الحل الوحيد لإصلاح المنظومة التربوية، و من يرى في الدين و الكتاتيب القرآنية البعبع الذي يعرقل تطور التعليم (مع العلم أن التربية الإسلامية أريد لها أن تكون محدودة من حيث ساعات التدريس و كأننا في بلاد الإفرنج)، و من ينادي بضرورة إيجاد نموذج تعليمي يستجيب لمتطلبات سوق الشغل و يساير متغيراته، ليذهب أصحاب هذا الطرح إلى أبعد من ذلك، بجعل المدرسة المغربية مركزا للتكوين المهني، لتخريج اليد العاملة المؤهلة للالتحاق بشركات و مقاولات أصحاب المناصب و الحقائب. وأصوات أخرى (و هي قليلة للأسف) تهمس بضرورة التشخيص العلمي الدقيق لواقع الحال، وامتلاك الإرادة السياسية الحقيقية للمضي قدما و تحقيق إصلاح جذري لقطاع التربية و التعليم، لكي يستجيب لتطلعات أبناء الشعب. أما أبناء الدار من أطر إدارية و هيأة تدريس و عاملين بالقطاع فهم بعيدون (أريد لهم ذلك) عن النقاش الدائر، لانشغالهم بالحركات الانتقالية و الترقيات، و كذا لاستنزاف طاقاتهم و قواهم في فصول هي أقرب إلى المركبات الرياضية و جماهيرها. إن النقاش الذي يثار حول هذا الموضوع و إن كان موسميا إلا أنه مهم، لكنه يبقى دون جدوى إذا لم تتحقق الإرادة و يقتنع الجميع و خاصة صناع القرار في دواليب الدولة العميقة، بتجاوز رغبتهم في تكريس النموذج التعليمي الذي يعيد إنتاج نفس الفئات الاجتماعية بلغة السوسيولوجي بورديو. فما أحوجنا إذا إلى تظافر الجهود و الوعي بمسؤوليتنا، كل من موقعه على اعتبار أن المسؤولية يتقاسمها الساسة و صناع القرار و الباحثون و المهتمون و العاملون بالقطاع و هيئات المجتمع المدني و إن بدرجات متفاوتة، فقمة هرم الدولة مطالبة بتقديم إشارات واضحة عن الرغبة في إصلاح فعلي للتعليم بعيدا عن خطابات الوصف و التشخيص، والحكومة عليها وضع هذا الورش ضمن أولوياتها وبشكل مستعجل، والعاملون في القطاع عليهم الخروج من قمقمهم و إبداء مقترحاتهم، فأهل مكة أدرى بشعابها، و بذلك سنقطع شوطا مهما في الانتقال من توصيف الداء إلى التفكير في الدواء. و هذا الأمر في اعتقادي و من خلال تجربتي المتواضعة طالبا للعلم ثم مدرسا، يتطلب معالجة جذرية و شاملة تنطلق من ثلاثة محاور كبرى هي: المعلم والمتعلم والمعرفة. ولنبدأ بالمتعلم لأنه حسب ديوي محور العملية التعليمية التعلمية، و ذلك عبر النهوض بأوضاعه الاجتماعية و الاقتصادية من أجل تذويب أسباب التعثر و الهدر المدرسيين، فالمتعلم يطمح في مدرسة تكون بالنسبة إليه هي المسرح و الملعب الرياضي و دار الثقافة و دار الشباب و الملجأ الآمن من كل الآفات الاجتماعية، فهو يقضي فيها معظم وقته و بالتالي لابد من مراعاة حاجاته النفسية و مسايرة متطلباته التي تتغير بسرعة تحت تأثير العولمة و الثورة التكنولوجية الحديثة، فلا مناص للمدرسة من الاستجابة لها حتى يتحقق الارتباط الوجداني بين المتعلم و المدرسة. أما المحور الثاني، فهو المعرفة و هي تحتاج كما سبقت الإشارة إلى إرادة حقيقية من المسؤولين على تدبير القطاع لتكون أصيلة نابعة من قيمنا و تراثنا الغني و حضارتنا الممتدة الجذور تاريخيا، ولكن منفتحة أيضا على ما جادت به قريحة الآخر و تجاربه فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، فالتحدي كبير في هذا الباب، أن ننطلق من ذواتنا و إمكانياتنا و ننفتح على الآخر و نستفيد منه، لكي نقدم للمتعلمين ما يرسخ قيمهم و يدعم ارتباطهم بمرجعيتهم و اعتزازهم بها، وما يجعلهم قادرين على الانخراط بشكل إيجابي في نهضة وطنهم. و هنا يتحتم علينا الحسم في سؤال ظل معلقا رغم تعاقب الإصلاحات و البرامج الاستعجالية وهو المرتبط بلغة التدريس، فلا هي عربية و لا أمازيغية و لاهي فرنسية.... ولنستفد مما كتبه علماء المغرب في هذا الشأن و لنا في الدكتور المنسي المهدي المنجرة النموذج الأقوم. ثم المحور الأخير و هو المعلم ( و ما أحوجنا إلى الرجوع إلى هذا اللفظ فهو الأنسب و الأفضل بالنسبة لرجل التربية و التعليم، خلافا لما يروج في ثقافتنا الشعبية التي أفرغت كلمة معلم من حمولتها و رساليتها و ألصقتها بشبهات البخل و التقشف و التنكيت...)، فلا نجاح لأي إصلاح دون إشراك العاملين في القطاع و دون مراعاة أوضاعهم و العمل على تحسينها، فالمتأمل لواقع الحال يرى أن جل المعلمين انشغلوا بالحركات الانتقالية و الطعن فيها و الترقيات بكل أنواعها.... بعيدون عن كل أشكال الإبداع و البحث العلمي، أو أريد لهم ذلك بسبب العراقيل التي تواجههم في إتمام الدراسة، وفي ظل عدم التفكير في إحداث مسالك للتعليم العالي عن بعد تلائمهم و دون توفير الضمانات و الشروط الكفيلة بأن يكون المعلم أهلا لرسالته التربوية، بل إن الأمر يبدأ منذ ولوج ما يسمى مراكز التكوين في مهن التربية، وكذبة التكوين والتأهيل والتدريب خلال أشهر معدودة على رؤوس الأصابع بين الشق النظري و التطبيقي. كما يجب إعادة النظر في المراقبة التربوية و مهمة المفتش التربوي التي يطلق عليها البعض التقاعد المبكر، والتفكير في تفويض الرئيس المباشر بالمؤسسة (المدير) للقيام بمجموعة من المهام التي لاتزال مركزية بما فيها المراقبة التربوية، إلى جانب هذه المحاور الكبرى هناك إجراءات موازية وجب التنبيه عليها، وتتمثل أساسا في ضرورة إشراك الأسر وكذا فعاليات المجتمع المدني ليكون الشأن التعليمي ديدن الجميع، ويصبح في صلب اهتماماتهم، كل يدلي بدلوه في أفق بلورة تصور واضح و إطلاق نموذج واعد للتعليم في بلادنا. وحتى تتحقق تلك اللحظة التاريخية و التي ستكون بلا شك ثورة حقيقية، علينا أن نشيع نفس التفاؤل بالمستقبل، ونرسخ ثقافة تحمل المسؤولية و المبادرة، متعلمون وآباء ومعلمون، فاعلون، حقوقيون، مدنيون وسياسيون....