ميزت تاريخ المغرب العام أحداث عظيمة منها تأسيس الدولة السعدية خلال القرن 16م، ومن المواضيع التي تتصل بهذا الحدث العظيم دور الشيخ محمد بن مبارك الأقاوي (نسبة إلى أقا وهي منطقة تابعة حاليا لإقليم طاطا) في تأسيس هذه الدولة، و رغم أهمية هذا الحدث التاريخي إلا أن الدراسات والأبحاث التاريخية تحاشت الخوض في تفاصيله، إما بمبرر شح المادة المصدرية و انعدام الوثائق المرجعية، و إما تحت تأثير إرادة تشاء أن تظهر الهوامش كأن لا حظ لها في التحولات الكبرى التي عرفتها البلاد. و نرمي من خلال هذه المحاولة أن نقدم توضيحا حول معنى تأسيس الدولة السعدية من أقا، و طبيعة دور الشيخ بن مبارك الأقاوي في ذلك، الذي اعتاد الكثيرون الحديث عنه باقتضاب و بنوع من الافتخار المطلوب طبعا لكن دون شرح و توضيح، سيما أن المرحلة تقتضي القيام بهذا التوضيح، طالما بيننا بعض من يدبرون شؤون المنطقة دون الالتفاتة إلى ما لها من رصيد في التاريخ. تتفق جل مصادر تاريخ المغرب في العصر الحديث على أن الشيخ محمد بن مبارك الأقاوي من مؤسسي أولى فروع الزاوية الجزولية بالجنوب المغربي، و التي تتصل بالقطب الصوفي محمد بن سليمان الجزولي، و بهذا الانتماء تكون الصورة التي يمكن نسجها عن شخصية الأقاوي، هي كونه ذلك الصوفي التقي الورع المنغمس في الروحانيات و فقه الباطن، لكن بين كتاب التاريخ من ينعثه بألقاب تنهل من السياسة من قبيل الأمير و السياسي، و نجد هذا الوصف عند الحسن الوزان (ليون الإفريقي) في كتابه وصف إفريقيا، و محمد حجي في مؤلفه الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين. و أمام هذين الوصفين أجدني مضطرا كما يفرض علينا المنهج بداية أن أطرح سؤالا بديهيا، هل كان للأقاوي اهتماما بالسياسة؟ و أكثر من ذلك هل كان لديه طموح لإنجاز مشروع سياسي في تلك الفترة؟ و إن كان ذلك في حكم المؤكد فما طبيعة هذا المشروع و ما حدوده و امتداداته؟ حسب المعطيات التاريخية المتاحة فإن العمل السياسي للشيخ محمد بن مبارك الاقاوي بدا جليا منذ سنة 915 ه (1509 م)، و في مضمون الحكاية أن وفدا يمثل قبائل سوس اتصل بالشيخ في زاويته بأقا، و نفهم من خلال ما ورد في كتاب المغرب في عهد دولة السعديين للأستاذ عبد الكريم كريم أن الغاية من هذا الاتصال هي، تقديم طلب من قبائل سوس للشيخ الأقاوي للقيام بأمرها و توحيد صفوفها، و أول ما يمكن الانتباه إليه عند تأمل الحدث أن المبادرة السياسية هاته لم تكن من طرف الأقاوي، بينما ارتبطت بالقبائل السوسية، و يعني ذلك أنه لم يكن إلى حدود ذلك التاريخ يحدوه أمل بتحقيق انجاز سياسي كبير، و لم يكن يشتغل من أجل تحقيقه مشروع من هذا الطراز. و حتى لا تبقى صلة الشيخ بن مبارك الأقاوي بالفعل السياسي محل شكوك، نطرح بالموازاة سؤالا آخر حول حدث لقائه بوفد قبائل سوس، و هو تساؤل ملح و ضروري، لماذا وقع الاختيار على الأقاوي دون غيره من شيوخ و علماء التصوف الجزوليين الذين كانت تعج بهم مناطق سوس و درعة و جزولة؟ إذا حسمنا أن الأقاوي لم يكن يملك مشروعا سياسيا إلى حدود بداية القرن 16 م، فلا يعني ذلك أن نطعن في حسه السياسي و كفاءته، أو نقصا في تجربته في إدارة الخلافات و حل المعضلات، فجل المصادر التاريخية التي تحدثت عنه تؤكد كونه استطاع الحد من الفتن الداخلية و تحقيق الصلح و السلم الاجتماعي بقبائل أقا و المجال الجغرافي القريب منها، و بالنظر لطبيعة تلك المرحلة و الظرفية التي كان يعيشها المغرب، المتسمة بضعف الحكم المركزي و عجز الوطاسيين عن فرض سلطتهم بسوس و الجنوب، فإن الفرصة كانت متاحة للمصلحين الاجتماعيين و شيوخ التصوف للقيام بهذا الدور، و فرض الاستقرار بمجال هم أدرى بخصائصه و طباع أهله، فقد كان ذلك كافيا ليحظى بن مبارك الأقاوي بتقدير من طرف السوسيين الذين قصدوه، كشخصية تمتاز بذكاء اجتماعي و وعي سياسي، و قائد له القدرة على توحيد صفوف القبائل المتنازعة و المختلفة. و يبدو كذلك ضروريا التساؤل لماذا قبائل سوس لوحدها هي من بادرت للقاء الشيخ الأقاوي دون غيرها من القبائل القريبة من أقا و الكثيرة أو حتى في درعة مثلا؟ فالمؤرخ المغربي محمد حجي يروي أن شيخا آخر من المتصوفة الجزوليين يدعى بركة بن محمد التيدسي (نسبة إلى قرية تيدسي قرب تارودانت)، كان يتزعم هذه القبائل و "يشرف على أعمال المجاهدين الذين يباكرون البرتغاليين و يراوحونهم بمنطقتي فونتي و ماسة في مناوشات لم تستطع ردع المسيحيين"، و المستفاد من هذا الخبر أن هذه القبائل لم تتوجه للاستعانة بالأقاوي إلا بعد فشل التيدسي في مواجهة القوات البرتغالية التي كانت تحاصر سواحل سوس، و بالتالي يكون هذا الاتصال مفروضا تحت الضغط، و قد يكون بإيعاز و أمر من بركة التيدسي لتطوير التنسيق بين فروع الزاوية الجزولية. و هناك قضية أخرى مثيرة في لقاء قبائل سوس بمحمد بن مبارك الأقاوي، و هي إحجام هذا الأخير عن تولي أمر قيادتها، و ستظهر التطورات اللاحقة لهذا الحدث أن اللحظة كانت مهمة للأقاوي قصد التفكير في مشروع سياسي ضخم يتجاوز حدود سوس، فلم يكن هذا الاحجام يعني رفضا مطلقا، ففي هذه السنة أي 915 ه حسب ما تتضمنه ثنايا المصادر التاريخية، استدعى بن مبارك إلى زاويته في أقا أحد شيوخ زاوية تكمدارت بنواحي درعة، و أطلعه خلال هذا اللقاء على آخر التطورات السياسية بسوس، كما يستشف أن المرحلة كانت للتشاور و التعبئة و وضع الأسس الأولى لبناء مشروع سياسي وطني، ففي السنة الموالية 916 ه ترأس الشيخ بن مبارك الاقاوي تجمعا جديدا بزاويته بأقا، تم فيه التراضي بعد اقناع قبائل سوس بمبايعة شرفاء درعة و تكمدارت. نظم تجمع آخر في نفس السنة بقرية تيدسي، بويع فيه رسميا أبو عبد الله القائم بأمر الله السعدي أميرا للجهاد بعد تزكيته من طرف محمد بن مبارك الأقاوي، و بذلك يكون دور هذا الأخير جليا في بداية الجهاد السعدي و تأسيس دولة السعديين، ليس تنظيرا، لكن اقناعا و تخطيطا، كما أن فكرته بتوحيد مناطق الجنوب الرئيسية أي درعة و باني ثم سوس، كان منطلقا لتحقيق وحدة البلاد ككل، بالتحكم في الفوضى التي عمت الجنوب يسهل توحيد باقي أطراف المغرب، كما أن التكامل في أدوار الزوايا الثلاث كان حسب رؤية الأقاوي ضروريا ليتحقق مشروع تأسيس الدولة، فإذا كانت تيدسي نموذجا للجهاد و الدور العسكري، فإن أقا كانت رمزا للسلطة الروحية و الصلح الاجتماعي، في حين يمكن اعتبار تكمدارت علامة على الزعامة السياسية. و مختصر الكلام أن الشيخ محمد بن مبارك الأقاوي بعد استنجاد قبائل سوس به كان يفكر بمنطق مصلحة البلاد، و استطاع بحسه الوطني الوحدوي المساهمة في تأسيس دولة ارتقت إلى مصاف الأمم العظمى في القرن 16 م، و ساهم في استمرار الدولة المغربية الموحدة التي أنقدها من التمزق السياسي و التناحر القبلي، و التي امتدت حدودها الامبراطورية إلى بلاد السودان في عهد المنصور الذهبي. (*) باحث في التاريخ