بعد التداعيات السلبية للأزمات المالية العالمية، برزت أصوات تنادي بضرورة البحث عن بدائل اقتصادية جديدة قادرة على تجاوز إخفاقات وإكراهات الاقتصاد التقليدي، ولعل أبرز هذه البدائل الاقتصاد والتمويل الإسلامي الذي يحظى اليوم بأهمية كبيرة سواء على مستوى مراكز البحث الاقتصادي أو الهيئات والمنظمات المالية العالمية، وعموم الخبراء. ويهمنا في هذا المقال تحليل الأزمة المالية العالمية الأخيرة، فنبسط أسبابها ومظاهرها، وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية ، مع تفسير ومناقشة أصولها التي تعتبر من إخفاقات الاقتصاد التقليدي المبني على قواعد وركائز النظام الرأسمالي، وبعدها سنعرض بعض الدعوات العالمية التي تدعو إلى تغيير هذا النظام الاقتصادي للخروج من الأزمة من خلال الاعتماد على مفاهيم الاقتصاد الإسلامي. الأسباب المباشرة للازمة بدأت الأزمة العالمية بتسويق العقارات لمحدودي الدخل في الولاياتالمتحدةالأمريكية بطريقة وشروط تبدو في مظهرها سهلة للوهلة الأولى تجلت في الحصول على القروض دون دفع تسبيق أو تقديم ضمانة وبفوائد جد منخفضة بلغت نحو 1% عام 2004 دون التأكد من القدرة على السداد؛ وبهذا تزايد عدد الطلبات على القروض حيث ارتفعت نسبتها ب 55% مابين 2002 و2005. الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار العقار وأصبح تجارة مربحة حيث كان يباع بحسب قيمته والتي لم تسدد بعد. وبعدما أقدم البنك المركزي الأمريكي سنة 2006 على الرفع من سعر الفائدة إلى 5.25% على غير المتوقع، ارتفعت أعباء قروض العقارات على المستفيدين منها وخصوصا محدودي الدخل الذين رفض الكثير منهم السداد مما نتج عنه تراجع الطلب على المساكن وبالتالي انخفاض أسعارها. ولاحتواء هذا الوضع قامت البنوك وشركات العقار ببيع ديون المواطنين في شكل سندات لمستثمرين عالميين بضمان العقارات، الذين لجئوا بدورهم لشركات التأمين التي وجدت في الأزمة فرصة للربح بضمان العقارات، فيما لو امتنع محدودوا الدخل عن السداد، وبدأت شركات التأمين بأخذ أقساط التامين علي السندات من هؤلاء المستثمرين. وفى ظل هذه الظروف، قام البنك الفيدرالي الأمريكي بإجراء استثنائي وذلك بخفض أسعار الفائدة. مع تفاقم الأزمة وتوقف محدودي الدخل عن السداد نهائيا، اضطرت الشركات والبنوك لمحاولة بيع العقارات محل النزاع والتي رفض ساكنوها الخروج منها، فعجزت قيمة العقار عن تغطية التزامات أي من البنوك أو شركات العقار أو التأمين، مما أثر سلبا على السندات، فطالب المستثمرون بحقوقهم عند شركات التأمين التي أعلنت عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها وإفلاسها هي والبنوك وشركات العقار؛ وبذلك اندلعت الأزمة المالية العالمية الأخيرة التي بدأت في شتنبر 2008 والتي اعتبرت الأسوأ من نوعها منذ أزمة الكساد الكبير سنة 1929. تداعيات الأزمة : كنتيجة مباشرة لهذه الأزمة أعلنت أكبر شركة تأمين في العالم " AIG" عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها تجاه 64 مليون عميل تقريبًا، كما التحقت بها كثير من المؤسسات الماليةالأمريكية مثل مورجان ستانلي وجولدمان ساكس، كما أعلن بنك Lehman Brothers إفلاسه. وفي سبتنبر 2008 انهارت بورصة وال ستريت -Wall Street – ومن بعدها باقي أقوى البورصات العالمية، واختفت مجموعة من البنوك الاستثمارية الكبرى مثل بير ستيرن – Bear Stearn- ، ليمان برادرس – Lehman Brothers – وأفلست ميري لانش – Merrill Lynch؛ وتلتها على بنوك ومؤسسات أخرى بأوربا وآسيا حيث أصبحت حافة الإفلاس والانهيار. وقد قٌدرت خسائر المؤسسات المالية حول العالم بما يقرب من 435 مليار دولار أمريكي، وشهد الاقتصاد الأمريكي انكماشاً على مدار العام 2008، ظهر جليا في ارتفاع معدلات البطالة، حيث وصلت إلى 6.1%، إذ قام أصحاب العمل بالاستغناء عن حوالي 605,000 وظيفة منذ بداية الشهر الأول من هذا العام وقد انعكس ذلك على سوق الأوراق المالية في صورة انخفاضات حادة في أسعار الأسهم والسندات. جذور الأزمة إن التحليل المتأني لأسباب هذه الأزمة يعزي جذورها إلى عاملين أساسيين : 1- المديونية (الربا): اعتماد نظام فائدة متغير للقروض العقارية وذلك بربطه بمعدلالفائدة الذي يصدره البنك المركزي الأمريكي (مروره من 1%سنة 2004 إلى 5.25% سنة 2006). 2- الخداع والإغراء وغياب الأخلاق (الغرر): حيث كانت صياغة العقود بمثابة فخ، فكانت في مجملها التفافا على القانون حيث أنه عند عدم السداد لمرة واحدة تؤخذ فوائد القسط 3 أضعاف عن الشهر الذي لم يتم سداده. كما أن السنتين أو الثلاث سنوات الأولى تكون بسعر فائدة ضعيف، يليها تفاوض حول سعر الفائدة الأعلى والذي ارتفعت بنسبة 25% ثم 40%، بالإضافة إلى الاستثمار في الديون بإعادة بيع العقارات بحسب قيمتها قبل تسديد مبلغها كاملا. إخفاقات الاقتصاد التقليدي هذان السببان يعتبران من الأسس والقواعد التي يقوم عليها الاقتصاد التقليدي، لذا أجمع الباحثون والمحللون الاقتصاديون على أن أصل الأزمات المالية العالمية يكمن في طبيعة النظام الاقتصادي التقليدي، الذي تعرف تناقضات كبيرة بين مرتكزاته وقواعده وبين أهدافه المعيارية، والتي يعبر عنها بلغة الأهداف الاجتماعية والاقتصادية المراد تحقيقها عالميا، كإشباع الحاجيات والعمالة الكاملة والمعدل الأمثل للنمو الاقتصادي والتوزيع العادل للدخل والثروة والاستقرار الاقتصادي والتوازن البيئي. وهذا التناقض جعل عددا كبيرا من أعلام وأقطاب الاقتصاد ينتقدون منهجية ومرتكزات هذا النظام، كذلك يؤكد الاقتصادي الأمريكي فيليب كوتلير أن "الأزمة العالمية التي شهدها العالم سنة 2008 و2009 خلقت حالة من عدم الاستقرار ومن الشك في الأسس التي يقوم عليها الاقتصاد الغربي، وأن ما حدث كان بسبب غياب التعاملات الإنسانية في سوق المال، حيث تركت دون قيم ومبادئ أخلاقية تحكم التعامل". بل وصل الأمر ببعض علماء الاقتصاد إلى حد التأكيد على أن هناك حاجة ملحة لإيجاد نموذج جديد، ولكن لم يتم بعد التعبير بصورة كاملة عن الصيغة التي قد يأخذها هذا النموذج الجديد. الدعوة إلى اعتماد مفاهيم الاقتصاد الإسلامي انتقادات الاقتصاديين لأسس الاقتصاد التقليدي صاحبتها دعوات عالمية إلى تغيير النظام الاقتصادي الرأسمالي للخروج من الأزمات وذلك من خلال الاعتماد على مفاهيم الاقتصاد الإسلامي. فقد دافع الاقتصادي الأمريكي جوزيف ستيغليتس1 صاحب جائزة نوبل في الاقتصاد سنة 2001 عن النظام المصرفي الإسلامي، معتبرا أن هذا النظام خطوة للأمام لتفادي الأزمات في المستقبل، حيث أن البنوك الإسلامية تقوم حقا على تقاسم المخاطر بين البنك والدائن2. وأشارت مجلة "فيتى إي بينسيرو" إلى أن النظام المالي الإسلامي قادرا على الإسهام في إعادة تشكيل قواعد النظام المالي الغربي. وأضافت أنه "قد تمخض عن عملية البحث عن نموذج مقبول من الناحية الشرعية وموافق للمتطلبات الأخلاقية، تحالف تجمعه المقاصد والأغراض بين علماء التمويل وعلماء الشريعة، والذين انخرطوا في العمل من أجل بعث وتجديد نظام مالي إسلامي قوي، وهذا التحالف العجيب ليس له مثيل في الاقتصاديات المعاصرة، ولكنه أدى إلى تدعيم قاعدة قوية لنظام اقتصادي جديد"2. كما أشادت دراسة أعدها مركز أبحاث الكونجرس الأميركي عن "التمويل الإسلامي" بالبنوك الإسلامية لكونها "أكثر صلابة في مواجهة التراجع الاقتصادي العالمي والأزمة المالية الدولية مقارنة بالبنوك التقليدية"، وأشارت الدراسة إلى اعتقاد كثير من المراقبين بأن "التمويل الإسلامي يمثل عجلة للتعافي من الأزمة المالية الدولية". كما توقعت هذه الدراسة بأن تعزز صناعة البنوك الإسلامية مكانتها في السوق الدولي في ظل بحث المستثمرين والشركات عن مصادر بديلة للتمويل" خلال الأزمة الراهنة وفي المستقبل3. هذا ما دفع الحكومة المغربية إلى التسريع في إخراج القانون الجديد الخاص بالبنوك الإسلامية –أو التشاركية- والتي ستكون مساهمة نوعية في تنمية الاقتصاد الوطني ودعامة أساسية في تطوير مناخ الأعمال وتعزيز جاذبية المغرب للاستثمارات الخليجية، والتي ستساهم لاشك في توفير استثمارات داخلية لمواجهة البطالة وتمويل الشركات والمشاريع الصغرى.