(على خلاف مع الاختيارات التي تريدها لبلادنا وقد ناهضتها ولا أزال لكن لست على خلاف مع ميلك الصادق إلى التعقل والرزانة وجمع الطاقات عوض التشنج والتشبث بالمضحكات المبكيات، ولأنك بقيت أنت كما أنت بقيمك وتواضعك، بلا بهرجات ولا خرجات ولا فولكلور ولا تسويغات آخر ساعة، عدا دفاعك عن وطنك حين توجب ذلك وأنت في موقع المسؤولية، لذلك ستكون أنت من أهنئه هذا المساء...) هكذا كلم صلاح الوديع، يساري حزب الأصالة والمعاصرة، وزير الخارجية السابق سعد الدين العثماني، وهو يغادر سفينة الديبلوماسية المغربية، إثر التعديل الحكومي الذي لا يزال النقاش حوله محتدما في وسائل الإعلام وعلى صفحات الفيسبوك، وعلى مقاهي الرصيف، بعدما أنسى المغاربة نقاش المقايسة، في انتظار أن يأتي ما ينسيهم نقاش الحكومة الجديدة. الإطلالة الأولى على الحكومة الجديدة تظهر خروج العثماني منها كأكبر خسارة لقيازة حزب المصباح، وللحكومة ككل، ولست تحتاج إلى كثير من التجوال الإلكتروني لترى الدموع التي تملأ الفضاء الافتراضي على رحيل الرجل، من قبل الخصوم، مثل صلاح الوديع، قبل الأصدقاء. وإذا استبعدنا التحليلات السطحية التي تحاول أن تظهر نزعة انتقامية من قبل عبد الإله بنكيران تجاه سلفه في الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، لا تصمد بغير الاعتماد على نظرية المؤامرات الكونية، التي لم يكتشفها آينشتاين على كل حال، إذا ما استبعدنا ذلك، فإن بإمكاننا، في ظل كل الظروف والمعطيات الوطنية والإقليمية، الحديث عن عملية استباقية يقودها الإسلاميون، لما يمكن تسميته فشل التجربة الإصلاحية الأولى، بالنظر لعدم نضوج شروط النجاح العملي لها. ما يحدث في مصر وسوريا وليبيا واليمن وتونس، التي ذهبت الثورات فيها في اتجاه الحدود القصوى، يشي بأن الموجة الثورية الأولى في العالم العربي، لم تكن بتلك القوة القادرة على انتزاع الدول العميقة بفسادها وعلاقاتها الدولية وتغلغلها في أطراف الدولة ومسامها وشعيراتها الدموية. لكن ما علاقة ذلك بخروج العثماني من الحكومة، وبدون أي مهمة سياسية، باستثناء قيادة برلمان حزب المصباح؟ يدرك بنكيران، ومعه صديقه عبد الله بها، وقيادات حزب العدالة والتنمية، أن هناك احتمالا مقدرا لفشل تجربة الحكم في التسيير، لعدد من الاعتبارات الموضوعية، (وهذا لا ينفي وجود اعتبارات ذاتية)، تصل إلى إمكانية تصفية الحزب، في حال النجاح النهائي للانقلاب في مصر، وحدوث حالة مشابهة في تونس، سواء تعلق الأمر بعمل تشرف عليه الداخلية بأساليبها، أو بلجوء الحزب إلى حل نفسه بنفسه، وهو أمر جرى تداوله بالفعل بين قيادات في الحزب، في حال اقتضت مصلحة الوطن التضحية بالحزب بأكمله. ما الذي سيتبقى إذن لأصحاب المشروع (الإصلاحي) في حال فشل تجربة الحكومة الحالية، مع ما يعنيه ذلك من احتراق ورقة بنكيران بالكامل؟ هنا يأتي دور سعد الدين العثماني، ليبعث من جديد التيار الإصلاحي وفق رؤية جديدة أكثر نضجا، بعد التجربة الفعلية لإكراهات التسيير، وتوافقات الطبقات السياسية العليا، وما يدور حولها من طبقات اقتصادية واجتماعية، تعرف كيف تدافع عن مصالحها، أو يتم تحريكها كبيادق على رقعة الشطرنج. ما يعنيه هذا الاحتمال هو شيء شبيه بما جرى في تركيا خلال سنوات الانتقال من القرن الماضي إلى الحالي: انقلاب الدولة العميقة على تجربة نجم الدين أربكان (الذي يقابله بنكيران هنا، مع فارق في الكاريزما)، وانسلال رجب طيب أردوغان رفقة أخرين، ( والعثماني يمثل الخيار الأفضل والأبرز في هذا السيناريو)، لتأسيس تجربة تتجاوز أخطاء أربكان، وتحقق النجاح للخط الإصلاحي. خروج العثماني ليس هزيمة ولا انكسارا، في ظل الظروف الحالية وطنيا وإقليميا ودوليا، بل هو إفساح للمجال أمام الرجل ليبلور الخطة البديلة لتحقيق الغايات الكبرى لما يصطلح عليه أصحابه (الخيار الثالث)، كما أن هذا الخروج يعني التفرغ لممارسة الدور الرقابي لبرلمان الحزب على أمانته العامة. خروج العثماني يمثل خط الرجعة بالنسبة للمشروع الإصلاحي لحزب المصباح، العثماني ترك فتات الخبز فعلا، كما في قصة أطفال الغابة، لكن ليس بنفس المعنى، فهو ترك فتات الخبز السياسي الذي كان يجنيه من قيادته للخارجية، ليعود للقيام بالدور الأخطر.