عندما اشتد العنف والصراع في سوريا وظهرت الإصطفافات الطائفية والإيديولوجية والسياسية،انسحبت حماس بكل هدوء من المشهد السوري دون إثارة المشاكل والقلاقل٬ والتدخل في أمور لا تعنيها، وصراع اختلطت فيه الأمور وفقد فيه الكل مصداقيته. هناك من عاتب حركة حماس على تخليها عن النظام السوري الذي احتضنها(لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية) لسنوات يوم تخلى عنها الجميع!!!، وآخرون عاتبوها على تخليها عن الإسلاميين والشعب السوري في صراعهم ضد الدكتاتور بشار ونظامه. أقول لهؤلاء وأولئك، دعونا من هذه المزايدات والكلام البعيد كل البعد عن الموضوعية،وعودوا إلى تاريخ حركة حماس، وادرسوا أدبياتها ولا تطلقوا كلاما جاهلا لا معنى له. هذه الحركة المباركة فلسطينية، تأسست للفلسطينيين ومن أجل فلسطين،لا من أجل الزج بها في صراعات خارجية، وتحويلها إلى مليشيات يستعملها من يدفع أكثر لتصفية حساباته مع خصومه،حركة ترفض الإسترزاق وعيا منها أن تدخلها لصالح هذا الطرف أو ذاك سيشكل بداية لإقبار القضية الفلسطينية بشكل نهائي . حماس انسحبت من سوريا ليس هربا أو جبنا، بل حفاظا على قضيتها ومصداقية المقاومة الفلسطينية وتجنبا لكل انحراف عن قضيتها الأساسية. من درس أدبيات وتاريخ هذه الحركة، سيكتشف تميزها عن باقي الفصائل الفلسطينية بحرصها عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية. كلنا يتذكر كيف تدخلت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في الشؤون الداخلية لعدد من الدول العربية،الأردن،لبنان، سوريا في السبعينات، وما خلقته من مشاكل وصراعات دفع ثمنها الشعب الفلسطيني كله غاليا، وأضعف موقف القضية بكاملها. حتى المغرب رغم بعده الجغرافي عن فلسطين، لم يسلم من تبعات الفوضى الفكرية والسياسية لفصائل منظمة التحرير الفلسطينية في الثمانينات، باعترافها بجبهة البوليساريو كممثل شرعي ووحيد "للشعب العربي الصحراوي" ومساندتها "لكفاحه" المسلح ضد "المستعمر" المغربي!!! أصبحت الفصائل الفلسطينية مجرد ميليشيات عسكرية، يُزَج بها في الصراعات الإقليمية،أو فصائل سياسية يزايد بمواقفها هذا النظام العربي على ذاك. ممارسات ومواقف أضعفت وأرهقت وعزلت منظمة التحرير وجعلتها تقبل بأي شيء وأي حل قدم لها في مؤتمر مدريد 1991 واتفاقيات أوسلو 1993... استطاعت حركة حماس أخذ المبادرة، وتدشين عهد جديد للمقاومة الفلسطينية وأسست لمنطق جديد مبني على معاداة الكيان الصهيوني ولا أحد غير الكيان الصهيوني،وتجنبت تشتيت طاقتها في صراعات خارجية هامشية تحرفها عن هدفها الرئيسي وهو القضية الفلسطينية، مما أعاد الروح للمقاومة وأكسبها مصداقية وشعبية كبيرتين. كل هذا يحيلنا على المشهد الحالي بشقيه السوري والمصري، لعقد مقارنة بين عدد من التوجهات والفصائل مقتصرا على الفلسطينية منها لتجنب التعقيد ما دمت أتحدث عن فلسطين. سوريا: بعد انفجار الوضع هناك، سارعت بعض الفصائل الفلسطينية وخصوصا ذات التوجه اليساري الماركسي كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الشعبية القيادة العامة، إعلان اصطفافها إلى جانب النظام السوري والمساهمة العسكرية المباشرة في مواجهة معارضي النظام، بحكم الأرضية الفكرية الإشتراكية المشتركة. الآن وبعد سنتين من الإصطفاف والإقتتال من حقننا أن نُقَيِّم ونطرح تساؤلات تميل إلى البراغماتية: هل استفادت القضية الفلسطينية من هذا الإصطفاف وهذا الإقتتال؟ ماذا استفادت هذه الفصائل؟ ماذا استفاد النظام السوري بزجه بالفلسطينيين في هذا الصراع؟ ماذا سيكون مصير هذه الفصائل في حالة سقوط نظام بشار؟ وتساؤلات أخرى كثيرة،أترك للقارئ إمكانية الإجابة عنها، كل بحسب هواه وتوجهه. مصر: انتهى الحراك بسقوط مبارك بداية 2011،تلاه مجلس عسكري ومخاض شعبي وسياسي عسير انتهى بانتخابات رئاسية فاز بها مرشح الإخوا ن المسلمون وإن كنت أفضل تسميته بمرشح حزب الحرية والعدالة لكن الواقع الإخواني يفرض نفسه. دخل بعد ذلك المصريون في مرحلة أخرى، وهي محاولة إنتاج دستور متوازن يرضي المجتمع المصري بكل أطيافه السياسية والفكرية والدينية. انسحاب المخالفين للرئيس مرسي وتوجهه السياسي والفكري، من تيارات وأحزاب علمانية من لجنة إعداد الدستور، أدخل مصر في صراع جديد وحالة استقطاب رهيبة في الشارع والمليونيات والمليونيات المضادة تعمق وتضخم بتصويت غالبية المصريين على الدستور،فانتقل معارضوا الدكتور مرسي من مرحلة المطالبة بإسقاط الدستور إلى المطالبة بإسقاط الرئيس المصري وحكومته وإقصاء حزبه وجماعته من المشهد السياسي، استعملوا خلالها كل الطرق الغير شريفة من بلطجة إعلامية و سياسية واقتصادية وأمنية انتهت بمؤامرة مع الجيش والإنقلاب على الرئيس المنتخب ومعه الدستور وكل المؤسسات المنتخبة ديموقراطيا. انقلب المشهد المصري ليصبح المعارض فيه حاكما بلغة العسكر والعنف والقتل،والحاكم معارضا معتصما في الميادين مطالبا بعودة الرئيس المخطوف والشرعية الديموقراطية. انتهى المشهد بعملية عسكرية أمنية رهيبة ومجازر وحشية في ميادين القاهرة والإسكندرية وباقي المدن لم تشهد مصر لها مثيلا في التاريخ. كان من الضروري هذا السرد المختصر للمشهد المصري، لنطرح التساؤل الآتي: أين كانت حركة حماس في ظل هذا المشهد و هذه التطورات الخطيرة؟ رغم مجاورة قطاع غزة لمصر،و الإرتباط التنظيمي التاريخي لحماس بجماعة الإخوان المسلمين،وحملة التشويه التي تعرضت لها الحركة من طرف الآلة الإعلامية والسياسية المصرية،واستفزاز السلطات الإنقلابية لها وتشديد الحصار على قطاع غزة ظلت حركة حماس هادئة مراقبة للوضع،غير متدخلة في الشأن المصري لفهمها اللعبة مسبقا، مما مكنها تجنب مواجهة عسكرية مباشرة مع العسكر المصري الباحث عن الخروج من مأزقه بخلق عدو خارجي، ومكنها كذلك من تفويت الفرصة على الكيان الصهيوني المتشوق لرؤية نهاية أسطورة حماس على يد العسكر المصري بعدما أنهكته في المواجهات المباشرة. هذه هي حركة حماس،الرافضة للاسترزاق السياسي والعسكري، المحافظة على طاقتها ومصداقية ورصيد النضال والكفاح الفلسطيني. إنها الأمل المتبقي للقضية الفلسطينية.