بعض الأحزاب السياسية في المغرب المحسوبة على الصف اليساري ما زالت حائرة بصدد ما يقع في الساحة المصرية، ولازالت تدرس الوضع.. هل يتعلق الأمر بثورة أم بانقلاب!! الالتباس الكبير مرده إلى كيفية التعاطي مع الاحتجاجات الشعبية التي خرجت إلى الشارع يوم 30 يونيو، ومدى تعبيرها عن رأي فئات واسعة من الشعب المصري ‘ثارت' على حكم الإخوان.. بالتأكيد هناك فئات ساخطة على وصول الإسلاميين إلى رأس السلطة في مصر، وهناك تيارات سياسية لن تكون سعيدة بوصول الإخوان المسلمين إلى رئاسة الجمهورية، ولن تتردد في معارضتهم بكل الوسائل الممكنة.. السؤال الذي يفرض نفسه، هل تتم معارضة الإسلاميين بالوسائل الديموقراطية أم يتم الاستقواء عليهم بتدخل الجيش..هنا مربط الفرس؟ لكن مع ذلك دعونا نتأمل في مظاهرات 30 يونيو هل كانت فعلا ثوريا حقيقيا؟ هناك فرق كبير بين الثورة الحقيقية التي انطلقت يوم 25 يناير وبين ما سمي ب'ثورة' 30 يونيو.. خلال الثورة الأولى نزل الشعب ولم ينزل أنصار مبارك، أما يوم 30 يونيو فقد نزل إلى الشارع أنصار حسني مبارك بمن فيهم رجال الشرطة والأمن بزي مدني حسب العديد من الشهادات، خلال ثورة 25 يناير سقط مئات الشهداء بعد تدخلات عنيفة من رجال مبارك وبلطجيته وفلوله (موقعة الجمل) ووجهت من قبل المتظاهرين بكافة فئاتهم وتلويناتهم السياسية وأبلى الإخوان المسلمون بلاء حسنا في هذه المعركة، أما وقفة 30 يونيو فقد مرت والطائرات العسكرية تمطر المتظاهرين بالأعلام المصرية والماء البارد وتسهر على أمنهم وراحتهم..خلال ثورة 25 يناير نزل الشعب المصري بكافة أطيافه ومكوناته الفكرية والسياسية أما في وقفة 30 يونيو فقد غابت عنها قوى سياسية أساسية نظمت مظاهرات مليونية مازالت متشبثة بالشرعية الدستورية وعودة الرئيس المنتخب.. الذين نزلوا يوم 30 يونيو عادوا لبيوتهم بعد 48 ساعة من أداء مهمتهم، ولو كانوا ثوارا حقيقيين لاستمروا في الضغط بواسطة الشارع على الرئيس مرسي حتى يضطر للتنحي لوحده ولما قاموا باستجداء الجيش للتدخل.. أما ثوار 25 يناير فقد ظلوا معتصمين لغاية إسقاط رمز النظام السابق حسني مبارك، بعدما اختار هذا الأخير التنحي وتسليم السلطة لنائبه عمر سليمان الذي اضطر بدوره إلى التنحي تحت ضغط الشارع، قبل أن يتسلم الجيش زمام الأمور.. ثورة 25 يناير أسفرت عن اعتقال مبارك وأبنائه وأقرب مساعديه، أما ما سمي بثورة 30 يونيو فقد أعقبها اعتقال العديد من القيادات السياسية بسبب انتمائها السياسي ومواقفها الرافضة لحكم العسكر. سيذكر التاريخ أن الرئيس المنتخب بعد الثورة الحقيقية لم يغلق القنوات الفضائية التي ظلت تنتقده وتسبه وتحط من قدره وتسعى لتشويه صورته وسمعته طيلة سنة كاملة، وسيذكر التاريخ أن الرئيس مرسي لم يسمح بإطلاق الرصاص على المتظاهرين ضده ولم يقم بتسخير القضاء لضرب مخالفيه ولم يزج بمعارضيه في السجن.. أما ‘ثورة العسكر' فقد أسقطت أزيد من 200 شهيد بعضهم من النساء والأطفال بدم بارد، ومازال الرفاق حائرين: أهي ثورة أم انقلاب؟!! الرئيس مرسي يواجه اليوم تهمة التخابر مع حماس، وهي تهمة لا يعاقب عليها سوى القانون الإسرائيلي.. وبالمناسبة فمن إنجازات ‘ثورة'30 يونيو تدمير أكثر من 80 في المائة من الأنفاق التي تمثل شريان الحياة بالنسبة لغزة.. الذين مازالوا يعتبرون بأن ما حصل يوم 30 يونيو ثورة وليس انقلابا، عليهم أن يراجعوا تاريخ تصفيات الثورات الشعبية، وسيجدون ما يحصل في مصر اليوم لا يختلف كثيرا عما حصل لحكومة مصدق في إيران الذي جاء إلى السلطة في أعقاب انتخابات حرة ونزيهة، قام بعدها باتخاذ قرارات اقتصادية وطنية أزعجت البريطانيين والأمريكان، وخاصة عندما قام بتأميم الثروة النفطية.. حاولت الشركات البريطانية استرجاع ما ضاع منها عن طريق وضع شكاية أمام محكمة العدل الدولية، لكن بدون جدوى..فتم اتخاذ القرار بالإطاحة بحكومة مصدق، وتمت الاستعانة بالمخابرات الأمريكية لتحقيق هذا الهدف، وهو ما كشفت عنه وثائق الأرشيف الأمريكي التي تم الإفراج عنها بعد مرور عدة عقود.. نفس المخطط حصل في الشيلي مع سلفادور أليندي الذي كشف عن توجهاته الاشتراكية ضد المصالح الأمريكية في الشيلي.. الموضوع اليوم أكثر خطورة، والصورة بدت أكثر وضوحا.. العديد من إدارات الدول الغربية تريد ديموقراطية على مقاس مصالحها الاستراتيجية، ولذلك لن تسمح بأنظمة سياسية جاءت في أعقاب ثورات شعبية حقيقية..وكما رفضت الأمس نموذج النظام الشيوعي، فلن تسمح اليوم بوجود أنظمة سياسية تصالح بين الإسلام والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.. الوصفة الجهنمية لتصفية الثورات الشعبية تبدأ بتأزيم الوضع الاقتصادي بعدة وسائل، وتوظيف المحبطين والعاطلين من الشباب في عمليات مخلة بالأمن، وإشاعة عدم الاستقرار وحالة الفوضى وتشجيع الإضرابات والاعتصامات، وتوظيف الآلة الإعلامية للقوى المحافظة من أجل تشويه قوى الإصلاح والتغيير وزرع الخوف من المستقبل وتحسين صورة النظام السابق، ونشر نفسية السخط وعدم الرضا على أوسع نطاق بواسطة مختلف أدوات الدعاية، ويمر هذا المخطط عبر إثارة العداوات الإيديولوجية بين قوى الإصلاح، وتحطيم فكرة التوافق والمصالحة ونشر ثقافة الانتقام والحقد والكراهية وعدم الثقة وتعميق الخلاف والتقاطب الحاد بين الأطراف السياسية إلى درجة إيمان كل طرف بضرورة إلغاء الآخر... كل هذه التقنيات جرى استخدامها في الحالة المصرية، لكن الانقلاب ليس قدرا مقدرا، وكما فشلت محاولة الإطاحة بالراحل تشافيز في فنزويلا، فإن إرادة الشعب المصري وصموده الأسطوري قادرة على استرجاع الاعتراف بالإرادة الشعبية وإعادة المسار الديموقراطي إلى سكته الحقيقية.. حاجتنا لفهم الأسباب العميقة لإجهاض الثورة الحقيقية لبلدان الربيع الديمقراطي، وعدم ترك العمى الإيديولوجي يطمس بصيرتنا لرؤية الحقيقة كما هي لا كما يريد أن يصورها أعداء الديموقراطية والحرية والكرامة في العالم العربي والإسلامي..