من غير المستبعد أن يكون أبو بكر البغدادي، زعيم حركة "داعش" وأمير الدولة في العراق وسورية، قد قرأ كتابات محمد رشيد رضا، الشيخ الذي يعود له الفضل في التعريف بالفكر السلفي ورسائل الحركة النجدية في العالم الإسلامي في بدايات القرن الفائت، والذي شكل حلقة وصل بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب، زعيم ما صار يعرف بالوهابية، وحسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، إذ كان رضا مدرسة البنا الفكرية، منه تشرب النزعة السلفية التي زرعها في فكر "الإخوان المسلمين"، حتى إنه وصف الجماعة التي أنشأها بأنها "دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية وهيئة سياسية". عاش رشيد رضا في حقبةٍ تميزت بشد وجذب، ما بين محاولات إنقاذ الخلافة العثمانية قبل السقوط وإعادة إحيائها بعده، في بدايات العقد الثاني من القرن العشرين، وأصدر جريدة "المنار" الشهيرة التي حملت لواء التبشير بهذه المبادئ التي دافع عنها، وفي 1922 أصدر كتابه "الخلافة"، وضمنه تصوراً شاملاً، أو برنامجاً لإعادة بعث الخلافة العثمانية، بالتزامن مع قرار الفصل بين الخلافة والسلطنة الذي اتخذه كمال أتاتورك في تركيا، تمهيداً لإسقاط الخلافة نهائياً بعد عامين من ذلك التاريخ، أي 1924. وقد جاب رشيد رضا أطراف العالم الإسلامي، مثلما فعل قبله جمال الدين الأفغاني، بهدف إقناع زعامات العرب والترك بإعادة بناء الخلافة، والتوافق عليها، واقترح على الطرفين التعاون بينهما لهذا الغرض، وأوضح أن الصراع بين العرب والترك على المفهوم الحقيقي للخلافة هو الذي كان سبب انهيارها. ولمّا أعياه الأمل في الوصول إلى مراده، كتب هذا الكتاب، شارحاً فيه الخطوات التي يتعين اتباعها لبناء نظام جديد للخلافة، على أنقاض الأولى، كل ما يمكن القول فيها اليوم إنها كانت أحلام رجل، أخطأ في قراءة الواقع آنذاك، أو أراد إقامة الحجة. نصح رضا بإعلان الخلافة في الموصل التي رأى أنها تشكل المنطقة الوسط، لسببين، الأول لأنها منطقة متنازع عليها بين العراق وسورية وتركيا. والثاني لأنها "يكثر فيها العرب والترك والكرد"، فتكون الموصل بذلك "إسماً وافق المسمى"، أي نقطة وصل، وقد أطلق على ذلك الوضع تسمية "إمامة الضرورة"، وأهاب بالحزب الذي سيتولى تلك المهمة، وهو حزب الإصلاح، إقامة "الدولة الإسلامية"، من أجل رد الاعتبار للدين، وحراسة الدنيا وإظهار صلاحية الإسلام للعالم، كما كتب بقلمه. ويبدو ذلك غريباً اليوم، لأن رشيد رضا لم يقترح أياً من العواصم العربية التي كانت تتزاحم، من أجل نيل حظوة احتضان الخلافة، بل اقترح منطقةً لم تكن مطروحة، آنذاك، لتكون مهداً لمشروع ضخم، مثل مشروع الخلافة الإسلامية. ومع ذلك، وربما لهذا السبب، لم يتحقق حلمه، ففي العام نفسه، اعترفت الدول الغربية بتركيا، فانتهت الخلافة العثمانية عملياً على مستوى الواقع الدولي، وتكرست الدول الوطنية المستقلة، ودخل العراق في دائرة من المآسي، بدأت، قبل ذلك بعامين، مع تنصيب الملك فيصل، ولم تنته مع اغتيال العائلة الملكية عام 1958.وكان من الاقتراحات التي تقدم بها إقامة نظام للخلافة في بقعة محدودة من الأرض، بحيث تكون مرحلية فقط، يتم فيها اتباع برنامج دقيق لتخريج العلماء، على أن يجري، بعد ذلك، اختيار الخليفة منهم، بعد أن يكون قد حاز شرائطها. وما اقترحه رشيد رضا في ذلك شبيه ب"كومونة باريس" التي أنشأها الاشتراكيون الفرنسيون، في نهاية القرن التاسع عشر، لتكون بمثابة منطقةٍ وسط تدار منها شؤون فرنسا في فترة الحرب مع البروسيين وتفكك الدولة، والتي اعتبرها ماركس إرهاصاً بالثورة البروليتارية العالمية. فمن الجائز أن يكون رشيد رضا قد اطلع على تلك التجربة، أو وصلت إليه أصداؤها. وكيفما كان الحال، فقد عقد فصلاً في كتابه بعنوان "إقامة الخلافة في منطقة وسط". وضع هذا التصور عام 1922، وفي يونيو/حزيران 2014، أعلن أبوبكر البغدادي، الذي خرج من فكر تنظيم القاعدة، إقامة الخلافة والدولة الإسلامية في الموصل نفسها، بفارق زمني مقداره 92 سنة. قد يكون الأمر مجرد مصادفة تاريخية فحسب، ولكن الرؤية الاستراتيجية التي حكمت رشيد رضا في اختيار المكان ربما كانت نفسها بالنسبة للبغدادي ومقاتليه، بالنظر إلى موقع الموصل على الحدود مع سورية وتركيا. ولكن، الفرق أن رشيد رضا أراد إحياء الخلافة التي كانت موجودة وفق آليات متوافق عليها بين الدول العربية والإسلامية، بما في ذلك تركيا، من دون حروب عسكرية، وعلى قاعدة التفاهم بين مختلف الأجناس في الموصل، ليكون التعدد العرقي عنصر إثراء لمفهومه عن الخلافة، وتجربة نموذجية يتم التبشير بها لضمان نجاحها، بينما جاءت خلافة البغدادي ثمرة فكر متطرف تكفيري، يبدأ بالحكم على أهل السنة بالردة، ويحكم على الشيعة بالكفر، فيخرجهم من الدين، ويحكم على المسيحيين بالكفر فيخرجهم من الأرض. الفرق الثاني أن رشيد رضا كان إصلاحياً وتصالحياً، نال الاعتراف الرسمي والشعبي به، بسبب الحظوة العلمية التي كان يتمتع بها، وكان ابن المؤسسة الدينية، بينما جاء البغدادي من تنظيم تكفيري مسلح، أعلن الخروج على المنظومات السياسية في الدولة المعاصرة، ومن خارج المؤسسة الدينية الرسمية، وهذا ما جعل الصورة في النموذجين مختلفة تماماً في الرؤية والمنهج. العربي الجديد