«أريد أن أتفرغ للكتابة !» إن كنت في عجلة من أمرك فلا داعي لمواصلة القراءة، لأن العبارة أعلاه تلخص كل شيء، لكنني متأكد من أن فضولك الفطري سيجبرك على التهام السطور القادمة، أليس كذلك؟ كلما سألت كاتبا عربيا عن حلمه الأكبر، إلا وبدأ جوابه بتنهيدة صادرة من أعمق أعماق قلبه، تحمل معها كل معاني الغبن والحسرة، قبل أن يقول: «حلمي هو أن أكون كاتبا متفرغا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لا أريد أن يشغلني عن الكتابة شيء سوى الكتابة !» ثم تبدأ سلسلة المقارنات المعتادة، بين الهنا والهناك… هناك، يتحدث الكاتب عن عشرات الآلاف من النسخ من إصدار معين كحد أدنى، إيراداتها لوحدها كافية لضمان حياة مريحة له ولأسرته، ما يجعل هاجس الاستقرار المادي مستبعدا بالنسبة له…. وهنا، يقاتل المسكين لبيع مئات وربما أحيانا عشرات النسخ من كتابه، عالما بأن إيراداتها لا تكفي حتى لتغطية مصاريف الطباعة، في ظل العزوف المخيف عن القراءة، وغياب ثقافة الكتاب عن معظم أبناء الجيل الجديد، وتدني مستوى المعيشة في المنطقة، والذي قذف بالكتب إلى خانة الكماليات عوض مكانها الطبيعي بين الضروريات. هناك يرافق الكاتب فريق متخصص مئة بالمئة، مدير أعمال ينظم مواعيد حفلات التوقيع واللقاأت مع وسائل الإعلام وجمهور القراء في بلد الكاتب وباقي دول العالم، خبير مبيعات وتسويق يفهم متطلبات سوق الكتاب ومكامن القوة المفيدة للمبدع، مستشار أدبي يفيد الكاتب بتوجيهاته ونظرته الثاقبة التي قد تغيب بعض تفاصيلها عن صاحب القلم. وهنا، يطالب البائس بالقيام بكل ما سبق لوحده، أن يعتصر خلايا مخه ليكتب، يسوق لكتابه بنفسه، ينظم حفلات توقيع على نفقته الخاصة أحيانا، يتواصل مع وسائل الإعلام، يتابع أرقام المبيعات (الهزيلة أصلا) ويستفسر عن أماكن توزيع كتابه، كما لو كان إنسانا خارقا بالفعل ! هناك، يستفيد من كل الظروف المواتية والمساعدة على الإبداع، الخلوة بعيدا عن أي صخب أو إزعاج، السفر المريح نحو جميع أنحاء العالم لتحفيز الخيال والبحث عن أفكار جديدة، الدعم النفسي من كل المحيطين به، ممن يتفهمون صعوبة هذا الميدان، والأهم من كل ذلك الاحترام والتقدير لعمله، والذي يدفعه لتقديم الأفضل دائما. وهنا، يخوض صاحبنا معركته لوحده، انعدام الاستقرار المادي، استحالة الاعتماد على إيرادات الكتب كمصدر للعيش، استهزاء البعض من جدوى ما يقوم به، إجباره على الدخول أحيانا في صراعات جانبية وتحزبات ثقافية تثبت في كل مرة فراغ مضمونها وابتعادها عن روح الثقافة الحقيقية، أما إن كانت كتاباته تضايق السلطات في بلده فتلك قصة أخرى لا داعي للخوض في تفاصيلها… هناك، مكاتب دراسات يتوجه إليها المبدع المهتم بالكتابة عن فترة تاريخية معينة بكل أسرارها وتفاصيلها، وهنا مكافح يبحث لأشهر وربما يصاب بأعراض الربو وضيق التنفس وهو يفتش بين الأوراق والمخطوطات القديمة والمصفرة للعثور على معلومة واحدة قد لا يتجاوز حضورها في عمله الإبداعي سطرين أو ثلاثة أسطر. (ولو أنني أجد في ما يفعله الثاني متعة لا تقاوم مقارنة بالأول). هناك جوائز تقديرية ينتظرها الكاتب كاعتراف بمسيرته الإبداعية ودورها في تنوير جمهور القراء والمتابعين، وهنا تحالفات شبه عسكرية وعداوات واقتتال «دموي» إن صح المعنى للظفر بجوائز لا يخوض معظم الكتاب غمار مسابقاتها إلا وعينهم على مبالغها المالية المهمة… هناك باختصار شديد، كاتب وكفى، وهنا كاتب تجبره الظروف على الاشتغال في التعليم أو الصحافة أو الترجمة أو حتى ميادين أخرى بعيدة كل البعد عن المجال الفكري والأدبي، فقط ليضمن حياة عادية قد تسمح له بهامش سويعات يومية للكتابة. ولكن رغم كل ما سبق، يمكن القول أن الكاتب العربي يتفوق على نظيره الغربي في جزئية مهمة جدا إسمها المثابرة والإصرار على مجابهة كل هذه الظروف المزرية، كمقاتل أثخنته الجراح، لكنه يصر على حمل بندقيته (قلمه) والابتسام في وجهك قائلا بتهالك : «سأواصل معركتي حتى النهاية، فإما أن أنتصر فيها، أو أموت دون ذلك…»