تعيش بلادنا العربية في ظل واقع مضطرب على إثر انتفاضات الشعوب والتي قوبلت بموجة قاسية من الثورات المضادة، كما يموج التيار الإسلامي بأطيافه المختلفة بتفاعلات غير معتادة، مما يجعل الاستماع لرأي العلماء والمفكرين أمرًا ملحًا. في هذا الإطار تحاور «إضاءات» الفقيه المقاصدي والمفكر المغربي الدكتور «أحمد الريسوني» نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ورئيس حركة التوحيد والإصلاح الأسبق – 1996-2003.
نص الحوار كاملا:
بعد 6 سنوات على الربيع العربي.. كيف ترون النتائج التي آلت إليها الثورات.. وهل ما زالت هذه النتائج غير نهائية؟
ليس في التاريخ شيء نهائي، وإنما فيه تدافع وسجال، ومد وجزر، وكمون وانفجار… هذا بصفة عامة.وأما بخصوص الحراك الثوري الاحتجاجي الذي شهدته الدول العربية قبل ست سنوات، والذي سمي بالربيع العربي، فتفاعلاته ما زالت حية ومتحركة بدرجات وتعبيرات متفاوتة. فهو مشتعل وحامي الوطيس في سوريا وليبيا واليمن، وهو في حالة غليان واحتقان شديد في مصر، وهو هادئ نوعًا ما في تونس والمغرب، وهو كامن أو مؤجل في دول أخرى كالجزائر والسعودية. لكن دون شك فالدول التي تحولت الأحداث فيها إلى صراع مسلح أو حرب أهلية أصبحت تعيش حالة مأساوية مظلمة. ومع ذلك فدوام الحال من المحال.
على أن الحالات الأشد مأساوية في دول الثورات العربية هي تلك التي تحركت فيها الجيوش والميليشيات النظامية وأجهزة القمع المختلفة، لتنقض على الحراك الشعبي السلمي الأعزل بأسلحتها ودمويتها… فكان ما كان من انقلاب وعسكرة وصراعات مسلحة. وهنا لا ينبغي أن ننسى الأدوار الإجرامية القذرة لملوك وأمراء عرب تبنوا وموَّلوا ودعموا بكل ما يستطيعون الثورة المضادة، وكذلك يفعلون إلى الآن.
هل كان الأفضل لشعوب الربيع العربي الاشتباك في مسارات إصلاحية بدل الثورات.. وهل لجوء الشعوب لخيار الثورة دليل فشل النخب المعارضة على سلك دروب الإصلاح أم أن المسؤولية كاملة تقع على عاتق الأنظمة المستبدة؟
لا شك أن طريق الإصلاح السلمي المتدرج هو الأقل كلفة والأفضل مردودية، وهو الذي تتوق إليه الشعوب العربية ولا ترضى به بديلا متى أتيح لها، لكن وكما يقول المثل المغربي «من يعطي العيد للعبيد؟»،فالانفجارات الشعبية الاجتماعية والسياسية لا تقع إلا عند انسداد الأفق وانعدام الأمل. وهذه الانفجارات الثورية الاحتجاجية هي عادة ردود فعل غير مدروسة ولا معقلنة، هي تعبير عن شدة الظلم وعن حالة الاختناق، فلا يمكننا محاسبتها ولا مؤاخذتها. بل يحاسب ويؤاخذ الذين بيدهم القرار والتدبير والإمساك بزمام الأمور. وأما التيارات الإصلاحية المتبصرة، فواجبها الاستمرار – بصبر وأناة وإصرار – في شق طرق الإصلاح السلمي والتدافع السلمي، وتوعية الشعوب بحقوقها وواجباتها، ودفعها للانخراط والإسهام في هذه الطرق والمسارات.
مع تفاقم المسألة الطائفية في عدد من الدول مثل الوضع في سوريا والعراق.. ما سبل التعايش المستقبلية من وجهة نظركم؟
لا شك أن إيران هي التي أحيت وأججت الصراعات الطائفية الحالية، واستخرجت لنا كل عتادها وأسلحتها، ثم تجاوبت معها السعودية ومن يتبعها، فجندت كامل قدراتها وإمكاناتها وأدواتها. وبين هذه وتلك، تدفع الشعوب والمجتمعات الإسلامية الثمن الباهظ الذي نراه، وخاصة المجتمعات المتعددة الطوائف «سنة/شيعة». وهذا الصراع الطائفي المتزايد والمتصاعد هو أكبر كارثة معاصرة تحل بالمسلمين، بعد الاحتلال الأوروبي واغتصاب فلسطين. ومن باب الأمل والتمني فقط أقول: من حيث بدأ المشكل يمكن أن يبدأ الحل. ولذلك أقول لعقلاء الشيعة كما قال الشاعر: «أبَني حنيفةَ أَحكِموا سفهاءكم …». أما سفهاؤنا نحن فهم تَبَع لسفهائكم.
وأخشى ما أخشاه أن الغرور الإيراني، والطموحات الطائفية لإيران لن تنكَفَّ إلا بعد أن تحل بهم الكارثة العظمى ويروا الحصاد المر لسياستهم العمياء. أرجو أن يفتحوا أعينهم وعقولهم قبل ذلك. لكم رأي واضح في رفض العنف ضد الدولة وتفضيل المسارات السلمية.. هل لكم بتفصيل هذا الرأي من زاوية شرعية.. وما تقييمكم للدور الذي لعبته الحركات الجهادية وأثره على الأمة الإسلامية؟ ما يسمى «الحركات الجهادية» هم قوم لا يخرجون عما جاء في الحديث النبوي «يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم»؛ فلا علم ولا فهم ولا عقل ولا تدبر. صنعتهم الظروف المَرَضية البئيسة التي يعيشها العالم الإسلامي، سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا. أما موقفي من العنف السياسي، أو الخروج المسلح على الحاكم المستقر القائم بالأمر، فهو نفسه الموقف الذي استقر عليه ما يشبه الإجماع لدى فقهاء المسلمين. وهو موقف له مستندات شرعية، وأخرى عقلية وسُننية تاريخية.
ومجمل تلك المستندات: أن هذا النهج لا يأتي إلا بالخراب على جميع الأصعدة. نعم إذا بادر الحاكم إلى مواجهة العمل السلمي بجيشه وأسلحته، فتلك حالة أخرى وقضية أخرى. فمن حق الشعوب أن تطالب بتغيير الحاكم الذي لا تريده، ومن حقها أن تقول له: ارحل. ومن واجبه حينئذ أن يرتب رحيله سلميًا. لكن ليس من حق فئة محدودة أن تتفرد بالأمر، وتبادر وتسعى إلى إسقاط الحاكم بالقوة والمغالبة.
كيف ترون تأثير غياب التيار الإسلامي الوسطي – تحت تأثير القمع – في مصر من زاوية مجتمعية ودعوية.. وكيف يستطيع أبناء هذا التيار التفاعل مع المجتمع في ظل المناخ الحالي؟
كلنا نعرف ونقدر مدى صعوبة الوضع في مصر، ومدى الظلم الذي حاق بالشعب المصري عامة، وبالتيار الإسلامي خاصة. وكلنا نعرف طبيعة الأنظمة العسكرية البوليسية. فمصر اليوم تعيش حالة تصحر وقحط سياسيًا وثقافيًا وحقوقيًا واجتماعيًا. ولكن لا بد مما ليس منه بد. لا بد من انبعاث العمل الإسلامي السلمي المتدرج، الدعوي والثقافي والسياسي، بأي شكل كان، وتحت أي اسم أو أسماء جاء. أما كيف ذلك، فهذا شأن داخلي محلي، لا أملك جوابه العملي. لكن من حيث المبدأ، لا بد من المرونة والتأقلم مع أحوال الطقس.
هل انتهى زمن الجماعات الإسلامية بطابعها الشمولي مثل جماعة الإخوان المسلمين في مصر.. وكيف يمكن تحقيق انتقال سلس إلى جماعات وظيفية فاعلة؟
نعم هذا صحيح تمامًا، فنحن في زمان «يا بَنيَّ لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة»، وفي زمان «وفجرنا الأرض عيونًا فالتقى الماءُ على أَمرٍ قد قُدِر». أما الكيف؟ فسؤال يتحدد ويتجدد جوابه في كل زمان ومكان على حدة.
كيف تقيمون واقع التيار الإسلامي من زاوية التجديد الفكري.. وأي ثمن يدفعه هذا التيار نتيجة غلبة الحركيين عليه؟
هذه إحدى معضلات التنظيمات الإسلامية، والتنظيمات السياسية الحزبية بشكل عام، حيث تعطَى المكانةُ العليا والكلمة العليا لضباط الصف، أي التنفيذيين التنظيميين، ويهمش أو ينسحب أصحاب العلم والفكر والنظر. وبهذا تصبح الحركة عبارة عن منظمة كشفية، همها الأول والأخير هو الضبط والانضباط. وأما الفراغ العلمي والضحالة الفكرية فقد يسده أو يعوضه بعض ذوي القدرات الخطابية، من خلال الحشد العاطفي السطحي. هذه ثغرة حقيقية وخطيرة. وما لم يتم دمج العلماء والمفكرين والمثقفين العقلانيين في مؤسسات القرار ومواقع التوجيه، فستظل الحركات والجماعات تعاني من القحط والجفاف والسطحية والجمود.
من واقع تجربتكم في التوحيد والإصلاح.. كيف رأيتم قرار حركة النهضة التونسية في مؤتمرها العاشر فصل العمل الدعوي عن الحزبي.. وهل يتسق مسارها الحركي بعد المؤتمر مع القرار؟
قرار حركة النهضة الفصل بين الحزب السياسي والعمل الدعوي خطوة شجاعة متبصرة من حيث المبدأ. ولكن التطبيق العملي لها لم يتبلور بعد، بل ربما لم ينضج حتى من حيث الرؤية والتصور.
كيف تابعتم حالة الانسداد السياسي والصعوبة التي تم بها تشكيل الحكومة في المغرب.. وما تأثيرات ذلك على الإصلاحات التي شرعت الحكومة السابقة برئاسة السيد عبدالإله بنكيران في تنفيذها؟
على كل حال العبرة بالخواتيم، ولقد تشكلت الحكومة وانطلقت، وهي دون شك استمرار للحكومة السابقة وطبعة جديدة لها بغلاف جديد، لا تختلف هذه عن تلك أي اختلاف جوهري. وليست أي منهما بالحالة المثالية ولا الحكومة المثالية، ولكن لم يكن بالإمكان أبدع مما كان. وعلينا أن نتعامل مع الواقع كما هو، لا كما نشتهيه. فقط نتعامل معه لتطويره ودفعه إلى الأمام قدر الإمكان، وفوق طاقتك لا تلام.
هل لكم بتوضيح حول موقفكم من البيان الصادر عن اتحاد علماء المسلمين والذي اعتبر النظام الرئاسي هو الأقرب للإسلام في معرض تأييده للاستفتاء التركي علي التعديلات الدستورية؟
هذا البيان في الحقيقة هو اجتهاد شخصي لشيخنا العلامة القرضاوي رئيس الاتحاد. وأما الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فلم يتداول هذا الموضوع ولم يقرر فيه رأيًا، لا مؤيدًا ولا معارضًا.