إن الركيزة الأساسية لكل مجتمع هو الجيل الناشئ، لأنه يمثل الطاقة الحيوية والعنصر الأساس في أي تقدم وتطور، وفي أي تراجع وتدهور كذلك. فإما أن يكون لنا جيل قادر على السير قدما نحول بلد متحضر ومجتمع مزدهر، أو أننا سنصطدم لا محال بالفشل في جل القطاعات. لا يمكن الحديث عن تقدم أي بلد دون الحديث عن تقدم المجتمع نفسه. وتقدم المجتمع يستلزم تقدما في منهجه التعليمي، وفي مستوى المعارف المقدمة لأجياله ومدى جودتها. بل يستلزم بالأحرى سياسة عمومية ثابتة ومحددة وقوية في مجال التربية والتعليم. فالمنهج التعليمي للبلد يلعب الدور الأساس في مستوى التنشئة المجتمعية، وعن طريقه تزرع روح المواطنة، وحب الوطن، والمبادرة لفعل كل إيجاب، والتعاون والتضامن بين الأفراد من أجل بلوغ الهدف السامي والمشترك بينهم، ألا وهو تقدم البلاد من الأفضل للأفضل. بيد أن غياب منهج محدد، وغياب دراسة دقيقة لمتطلبات البلد، وغياب المعرفة بالأدوار، أي معرفة كل فرد من هذا المجتمع بأهمية وجوده، وغياب حس مسؤولية الفرد في مدى ازدهار بلده أو تراجعها للوراء. كل هذا سيؤثر سلبا على الفئة الناشئة، وسيؤثر بذلك على مستقبل البلد، وسيخلق جيلا معطوبا يعشق اللهو واللعب وتحقيق المتعة لذاته دون مقابل. كل هذا سيخلق جيلا مستهلكا بالأساس لا منتجا. إضافة إلى المنهج التعليمي، فالوطن بحاجة إلى منهج لإبراز المواهب والقدرات، بحاجة لإبراز الطاقات الحيوية لذا شباب المستقبل، بحاجة لتحديد مسار كل فرد حسب طاقته وعطائه، بحاجة للتخصص بدل التعميم. فالقصد من ذلك هو الحصول على جيل متخصص كل في مجاله. والتخصص يعني الإتقان، وارتفاع جودة الخدمات والبرامج والأشغال، ومن تم القدرة على الابتكار والاختراع والسير نحو ركب الدول الصاعدة. يأتي كل ذلك بشكل متوازي مع ضرورة خلق فضاءات تستوعب كل الحاجيات. وكذا خلق سوق للشغل يتماشى مع مخرجات المنهج التعليمي المسطر سلفا وفق ضوابط تحترم رؤية البلد وتوجهه وأهدافه. كما أن الأمر يستلزم توفير الأجواء الملائمة ماديا ومعنويا لكل التلاميذ والطلبة والشباب الباحث، من أجل إعطائهم الفرصة لإبراز كفاءاتهم وقدراتهم. وكل هذا طبعا سيعود بالنفع وبالخير على هذا البلد. حديثي اليوم حول هذا الموضوع، يأتي بعد المرور بعدة تجارب شخصية، دعني أقول أنها تجارب سلبية (ولو أن أمر المسلم كله خير)، وكذلك من خلال تجارب أخرى عايشتها مع أشخاص كنت في احتكاك مباشر معهم. فلو سألتني عن تعليقي حول تلك التجارب، سأجيبك بعبارة مختصرة " لولا حب الوطن..". لأنها عبارة تعكس مدى المعاناة والأسى الممزوج بالصبر والاستعداد للعطاء. نعم، فلولا حب الوطن ما صبرنا على كل تلك الأكاذيب والتهميش والإقصاء والغش والمحسوبية والزبونية و"باك صاحبي" … لولا حب الوطن ما استمر كثير من المخلصين الغيورين على هذا البلد في طلب العلم والتفقه والارتقاء بالذات للأفضل والعطاء دون مقابل. حكايات عديدة، أسرد لكم منها بعضا من الأكاذيب يتعرض لها شبابنا في مسارهم الدراسي والمهني. أتحدث عن الجزء المتحمس من الشباب المعطاء، بعيدا عن نفق شباب لا يهمهم سوى تحقيق راحتهم وغاياتهم بشتى الطرق، وقد ينخرطون بشكل أو بآخر في إفساد بلدهم نهبا وسرقة وخداعا، آملين بكل شوق في مغادرة الوطن كراهية منهم فيه، وهذا موضوع آخر يحتاج دراسة ونقاشا عميقين. أتحدث اليوم عن شاب أفنى جهدا في طلب العلم والمعرفة، متحمسا للارتقاء خطوات أكثر، فيصدم بتلاعب اللاعبين عليه هو وأقرانه في تكوين متخصص سلكوه بعدما تم انتقاؤهم بمباراة، فيدركون بعد ذلك أنهم مجرد غنيمة يقتات منها آخرون. ويصدمون بالواقع المر، كونها مؤامرة ربحية مؤسسات دون مخرجات حقيقية لهذا التكوين. ناهيك عن الفترات التدريبية بالمؤسسات الخاصة وما يحدث فيها من استغلال واستنزاف للطاقات دون مقابل، بل وأحيانا دون إعطاء هؤلاء الشباب شهادة تثبت كفاءاتهم وتجربتهم. فيكون مآلهم في الأخير، طردهم ليؤتى بضحايا آخرين. وما بالكم بشاب تفتح أمامه فرصة للعمل فيبتهج، فيُطلب منه أداء واجب التكوين، فيُكابر من أجل تسديده رغم ضعفه المادي وكله أمل في باب فتحت في وجهه، وبعد التكوين الأول والثاني والثالث … يقابل الشاب بعبارة: "سير حتى نعيطولك". فكيف ستكون نفسية هؤلاء الشباب في نظركم؟ أكتب اليوم، وأشعر أن الكلمات تخونني والعبارات لا تسعفني لأوصل تلك المعاناة التي يعيشها شبابنا الطموح المنكسر. أكتب اليوم، وأشعر أني لم أوفي الموضوع حقه، لأنه يحتاج إعادة النظر من طرف الجميع، مؤسسات خاصة وعامة، وشركات، ومستثمرين… هذا الموضوع يحتاج انتباها من طرف الدولة، من خلال إعطائه الأولوية، وخلق سياسة عمومية واضحة في هذا المجال، وتعميمها وإشراكها مع كل القطاعات المترابطة معه.