الثقافة بناء وليس هدما..دورها الأساس تدليل عوائق التواصل مع الآخر، لأنها بطبعها إنسية.. فهي منتوج بشتى التصورات والأنماط والسلوكات … منتوج يتنامى ولا ينقطع على مدى الكون.. تصنع مفاهيم الوجود والإنسان والتاريخ والمعرفة… تمثل بتميزها شعوبا وحضارات وأجناسا…وحين تضيع، تضيع معها مقومات الإنسان ووجود كيانه: الهوية والقيم والمثل…إنها انخراط كوني، لا غياب لها فيه..ومن هنا فهي تمثل عموما، خاصة في موطنها، كل الأدوار والوظائف والمهن والمسؤوليات، الدالة على كل نشاط منتج، ذهنيا كان أو حركيا. – وانطلاقا من جوهرها هذا، يمكن أن نميز ونفصل بين كل من "ثقافة عالمة" و"ثقافة حالمة"، على أن الأولى، مهما كانت، فهي"النحن" بما نمتلكه من أدوار..وهكذا فهي ذات مصداقية، لاختيارنا لها تراثية أو معاصرة، نتفاعل معها ونحياها في الحياة العملية كاحتراف وامتهان.. وعلى سبيل المثال سواء بسواء، الصناعات التقليدية والحرفية اليدوية من جهة، ومن جهة أخرى الطب والقضاء والهندسة والتعليم، والسياسة والعلم والتقنيات والاشتغالات الجمعوية والمؤسساتية ، تحقيقا للشعارات المرفوعة والأهداف المرجوة…أما الثانية فهي ذائقة موهوبة وملهمة لذواتنا، بانفتاحها في/وعلى الكيان الذي يحضنها تنويرا وإبداعا.. وقد تكون، دون حصر، إما هواية أو انشغالا فكريا أو إبداعيا، كالفلسفة والآداب والفنون والرياضات…وإذا وعينا أخلاق هذه الأخيرة هي أيضا، بإيجابية لديها، نحولها إلى أدوار تخصنا، نهواها ونستحقها… وهكذا يتموقع المثقف مسؤولا مبدئيا عن ثقافته محبا ووفيا لها، في ذاته وفي مجتمعه وأمته..فالمسألة إذن هي مسألة أخلاقيات الذات العارفة والماهرة والمتفقهة بما تتلقى وما تنتج، بوعي وحماس. – وإجمالا فإن علاقة الثقافة بمن يتبناها أو يختارها بشتى أنواعها واختلافاتها، لا تتوطد إلا متى كانت تعلي صاحبها إلى مرتبة مثقف عضوي أو مثل يقتدى، جدير بها وبالدور الذي هي منوطة به، فيعتز بها ويوظفها لعلو شأنه أخلاقيا وشأن مجتمعه حضاريا… فهذه النماذج من الثقافات التي صنفت أعلاه في السياق المذكور، هي من يتحمل مسؤولية المشروع الحضاري للمستقبل إن وجدت بأخلاقها، لأنها هي معلمة الشعوب الناهضة ومؤطرة أفرادها وجماعاتها…ولهذا فالثقافة بأخلاقها تبدأ من حيث يبدأ الاشتغال، فتقوده وتتماشى معه،مرتبطة بأرضها وإنسانها وكيان هذا الإنسان المعرفي والتدبيري والإبداعي ، تشع فيه وتستنهضه…فكل مسؤول، كان رئيسا أو مرؤوسا،عاملا أو رب عمل، موظفا أو مديرا، هو مواطن قبل كل شيء بحسه وأخلاق ثقافته، والتي هي جوهره المعنوي.. فالطبيب مثلا لا حصرا، له ثقافته تسبق الدخل لديه، والمحامي أيضا والقاضي والمهندس وكذا الأستاذ ، بحيث لا يكون في حسبانهم القبلي إلا إصلاح طرق الاستشفاء وإمكاناته أو الدفاع عن الحق وتثبيته أو القيام بالعدل ونزاهته أو التخطيط ومنطقه أو التدريس وتطويره، ليتمكن الجميع من أداء مهمته بشكل مثالي ومبدئي…فعندما تسند مأمورية ما، يجب أن توقظ في الذات لدى الجميع شروط ومهارات تحقيق شخصية المواطنة وخصلة التفاني فيها، أي"أخلاقيات الثقافة" التي تم التكوين فيها، لتقويم العمل ، وإتقان الإنجاز، وحب المشاركة، وكل ما هو على منوال هذا السياق، إلى حد عدم التوقف عن النقد الذاتي لديه كي لايسمح لنفسه بالتهاون أو التخلي أو الإهمال، إذ هو المسؤول قبل كل شيء، على أخلاق مهنته التي هي ثقافته.. وتلك هي الكفاءة، التي تبني ولا تهدم. – ولذا نتساءل أين منا نموذج من أخلاقيات الثقافة هذه ؟ ونحن نرى الإفساد تؤطره الأساليب الكاذبة، والجشع يسطو على مقدرات البلاد، والإهمال يشل التطور؟ فهل نرضى، دون اكتراث، بأن نشاهد التخلف قابعا بجانبنا، دون إحساس أو غيرة على الوطن وأبناء الوطن وإنسانه.. ثم، والحالة هذه، نغض النظر عن الضياع وهو يطال كل شيء في عقر الانتماء، أطفالا وشبابا وطاقات…كما نرى، ونحن سعداء سلبا، الديموقراطية والعدالة الاجتماعية لا تستقيم أبدا في البلد ، فنصمت ونصمت، ونحتسي"نخب" اللحظة المزيفة… إن أي شخص لا يؤمن بأخلاقيات ثقافته فهو لا يستحق مسؤوليته، إذا كانت ثقافته لا تحترم نفسها وتعمى عن واقعها ؟ .. فمن لا تهذبه ثقافته لا قيمة له .. حبذا إذن لو تخلقت وتشبعت بثقافتها الصرفة كل نخبنا، فيبنون ملتزمين مع قواعدهم وأتباعهم والمشتغلين معهم، والذين هم تحت إمرتهم، ليتنافسوا، كأطر مثالية عليا، على الاعتزاز بنجاح منجزاتهم، وفخرا بصعود نجم وطنهم في الأعالي.. فهل يصح أن نتملص من واجباتنا ونتنكر لأخلاقيات ثقافاتنا ؟ ثم، إلى متى نخاطب بعضنا بقول "أنت..ولست أنا".