محمد رمصيص تعيش السياسة الثقافية المغربية أزمة مركبة، أزمة تتعدى ضعف البنيات التحتية وضبابية الرؤية الاستراتيجية للوزارة الوصية، فضلا عن ضعف التنسيق مع وزارات تدخل على خط ترويج المنتوج الثقافي كوزارة الاتصال والتربية الوطنية وما شابه ذلك. أزمة ترخي بظلالها على كينونة وهوية المواطن المغربي المعطوب جراء إخفاق الحكومات المتعاقبة على وزارة الثقافة منذ الاستقلال وحتى اليوم في تحويل الثقافة من قضية نخبة إلى شأن عام، علما أن الثقافة -في الأساس- سلوك وذوق وممارسة للوجود في شموليته، بينما هي عند المؤسسة الرسمية حدث مناسباتي ينتهي بإطفاء أضواء كاميرات التوثيق. الثقافة بالمعنى العميق جسر جماعي لتحقيق انتقال حضاري على خلفية وعي المواطن باللحظة التاريخية والزمن الراهن وقدرته على رفع تحديات الحرية والديمقراطية. هي مقياس حضاري لتقييم وعي الشعوب، غايتها صناعة الإنسان والحياة بسمو ورقي ضمير جمعي مرتبط بالتاريخ والتراث والهوية، ومن ثم صح تمثلها بصمام أمان لخلق أمن مجتمعي يجنبنا التطرف والإرهاب. الثقافة – في هذا السياق – من خلال منتوجاتها المختلفة تتغيى توجيه الرأي العام والذوق الصائب. هي بشكل من الأشكال ضمير جمعي للأمة يطمح إلى حفز المجتمع على التقدم الحضاري من خلال الارتقاء بالذوق والسلوك والتفاعل مع الآخر والذات والعلاقة بينها. الثقافة مصدر حصانة بشرط عدم اقتصارها على التفكير المعرفي النظري وامتلاكها بعدا وظيفيا قصد التأثير الملموس والمباشر في حياة الأفراد والجماعات، وإن كانت الكتابة مثلا، في بعديها الفردي والنظري، فعلا نضاليا وإلا ما الداعي أحيانا إلى توقيف مجلة أو جريدة، بل تصفية حملة الأقلام؟. 1 – المثقف واشتراطات اللحظة: تتحدد هوية المثقف بكونه منتجا للمعرفة وصاحب قضية، فضلا عن انخراطه بإيجابية في قضايا مجتمعه. قوته بالقياس للسياسي، مثلا، أن معرفته غير عقيدية وبعيدة عن الإيمان الأعمى. معرفته متروكة للمراجعة في كل حين ومفتوحة على الزمن الآتي من خلال حدسه بالقضايا القادمة من المستقبل. المثقف بهذا المعنى وفي للنقد ورافض للامتثال للقطيع بصرف النظر عن هوية المؤسسة المنتسب إليها، سواء كانت حزبا أو قبيلة أو جمعية وما شابه ذلك. ولعل المسافة التي خلقها عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري عن الحزب هي التي منحتهما بصمة ثقافية راسخة وعميقة في ذاكرة الثقافة المغربية المعاصرة. فإذا كان السياسي (في بعده الحزبي) يغرق في اليومي وينشغل بانتزاع مكسب هنا والآن.. فإن المثقف يرتقي بالحدث لجعله خالدا في ذاكرة التاريخ، ولنا في الفكر والفلسفة والإبداع المغربي خير مثال. كما أن هامش الحرية عند المثقف أوسع وأكثر فعالية من السياسي، الذي يمتلك سقفا واطئا جراء خضوعه لإملاءات الحزب المحكوم بدوره بسياسة المؤسسات المالية الدولية. وهذا ما يجعل المثقف أجرأ من السياسي لأنهما مرتهنان – في العمق – بالقاعدة التالية: «يقين السياسي وشك المثقف». إن اعتقاد المثقف بنسبية معرفته يجعله في العمق يؤمن بالتطور ويتمثل ذاته كمقترح لا كواعظ. سياق يؤسس لفكر الاختلاف من جهة ويفتح المعرفة على شرفة الحوار والحرية قصد إغنائها من جهة ثانية. إن الإيمان بالنسبية والتعدد والحوار والحرية والاستقلالية قيم كفيلة بتأسيس مجتمع حداثي. مجتمع يشترط وجود المثقف في الريادة ولعبه دورا تنويريا من خلال تعاقده الرمزي مع المجتمع، نتحدث هنا عن المثقف المستقل النزيه والحر، على خلاف مثقف السلطة أو «المثقف الخبير»، الذي يتصف أحيانا بالحربائية جراء تسويقه معرفة متلونة حسب مقتضيات الموقف. صحيح أن الإعلام شرفة مجدية لتسويق رسالة وموقف المثقف وتخليص معرفته من برودتها الأكاديمية ونخبويتها في أفق تحويل العلم إلى ثقافة يومية للجميع، غير أن وسائل الإعلام ليست منسجمة ولا واحدة، وبالتالي لها غايات مختلفة حسب لونها، فمنها الرسمي والحزبي والمستقل. وعموما أدرك الإعلام جيدا أن سلطة المثقف ليست فقط في معرفتها، ولكن في تحولها إلى رأي عام، والوسيلة هي وسائل الإعلام التي صنعت أصواتها الخاصة في شخص الصحفي المتخصص للحيلولة دون المكوث تحت سلطة المثقف. 2 – في مظاهر الأزمة الثقافية بالمغرب: ثمة عدة أعطاب تجعل الثقافة غير فاعلة في المجتمع، منها: 1 – هجرة الأدمغة إلى الخارج، ممارسة تضرب في عمق التنمية المجتمعية وتهدد الأمن الثقافي المغربي. فالمثقف المهاجر لا يبحث فقط عن الربح المادي بقدر ما يسعى إلى إيجاد هامش من الحرية قصد التصالح مع الذات. وبهجرته يحقق مكسبا فرديا وخسارة مجتمعية. 2 – اكتفاء الجامعة المغربية بوظيفة تدريس الطلبة، ونادرا ما تطرح قيمة مضافة على مستوى البحث العلمي وتحويل العلم إلى ثقافة يومية، دون الحديث عن النسبة المئوية الهزيلة من ميزانية الدولة المرصودة للبحث العلمي. 3 – هزالة الإصدارات التي لا تتجاوز 1000 عنوان لأربعين مليون مغربي بمعدل 6 دقائق للقراءة سنويا لكل فرد مقابل 36 ساعة عند نظيره الغربي. وكتاب واحد لكل ربع مليون عربي مقابل خمسة آلاف كتاب لكل إنجليزي مثلا، حسب إحصاءات اليونسكو والإيسيسكو. 4 – هامشية الإعلام الثقافي الورقي والرقمي والسمعي والبصري، إذ غالبا ما تقدم البرامج الثقافية في الوقت الميت. كما أن الصفحة الثقافية بالجريدة تكون في الغالب هي الصفحة الأخيرة أو ما قبلها، والترتيب له معنى، دون أن نتحدث عن رمزية توصيف الحيز المرصود للثقافة في «الملحق الثقافي»، والملحق هو الحيز الذي جاء بعد القسمة، أي ذاك الشيء الذي أتى متأخرا في التخطيط وفي التمثل وفي الإنجاز (الشياطة بالدارجة). هذا بالإضافة إلى أن الدخول الثقافي يأتي آخر دخول بعد الدخول الرياضي والمدرسي والسياسي..والتوقيت له دلالته الرمزية العميقة مرة أخرى.. 5 – غياب الجوائز التحفيزية لحمل محترفي الثقافة على طرح قيم مضافة في حقل الاختصاص. 6 – بعد القطاع الخاص عن الاستثمار في المجال الثقافي ونشر المعرفة (الأبناك والشركات…) 7 – اختزال الثقافة في حيز الإبداع وغياب سؤال الفكر والتأمل (عطب يشمل جمعيات المجتمع المدني كذلك) 8 – عدم قدرة المثقف على العيش من منتوجه الثقافي لغياب إستراتيجية لدى وزارة الثقافة، علما أن طابع التطوع نفسه بات في مسيس الحاجة إلى مراجعة، أقصد ذاك التطوع الذي يشمل الكتابة في الصحف والمجلات والحديث للتلفزة والإذاعة، أنشطة غير مؤدى عنها، وهي جهد ووقت ومال مخصوم من حياة المثقف. أعتقد أنه بات للمبدعين والمثقفين كامل الحق في المال لعام، بل والاستفادة من هذه الصفة الرمزية، سواء في الإقامة أو السفر، من خلال تعاقد الحكومة مع مؤسسات التنقل والإقامة وما شابه ذلك.. صحيح أن التطوع يمكنه أن يحضر، لكن كاستثناء لا كقاعدة. 9 – عدم إدراج مغرب العمق في برمجة المعارض الجهوية الحقيقية والمحترمة للثقافة من طرف المديريات الجهوية لوزارة الثقافة، وكأن السياسة الثقافية المغربية تكرس ضمنيا مقولة «المغرب غير النافع» باقتصارها على معرض دولي واحد بالدار البيضاء وكأنها المدينة الوحيدة المعنية بالثقافة.
الجسد وتمظهراته البصرية بنيونس عميروش إن الاشتغال حول موضوعة الجسد، كما في الفكر والفلسفة ومختلف مجالات العلوم الإنسانية، عرف اهتماما ملحوظا في مسار الفن المعاصر من خلال تمظهراته المتنوعة، وعبر مختلف الاتجاهات والأساليب المتباينة. وبعد أن بات الفن متمثلا في صيغته التجريدية القائمة على التركيب والتحليل والبناء ومعالجة المفاهيم التشكيلية بتعدد أبعادها الدلالية والجمالية، مقيما بذلك قطيعته القصوى مع الموضوع/ النموذج (Sujet / model)، عرفت تيمة الجسد استفاقة حادة في التجارب التشكيلية المعاصرة على امتداد أواخر القرن العشرين، بوصف الجسد كيانا رمزيا. ففي مقابل «التمثيل» Représentation المتعلق بمادية الجسد الفيزيقية وأبعاده الحَجْمِية داخل مختلف العلائق والتوازنات الفضائية، تم البحث عن صياغات الاختزالات والتكثيفات الممكنة لتشديد رمزية الجسد، ومعالجة التحولات المحْتَملة لتأكيد تعبيريته، ثم معالجة التوليفات الممكنة لإفراغه من أبعاده المادية والعضوية والجنسية، ومن ثمة تذويبه لكشف صفة الكيمياء فيه. هل يمكن الحديث عن العري عندنا؟ أو بصياغة ألطف، هل يمكن الحديث عن تناول الجسد في طبيعته المادية، الفيزيقية، في التشكيل المغربي المعاصر؟ نعم بطبيعة الحال، بيد أن تناول الجسد العاري ظل يخضع باستمرار إلى المعالجات التشكيلية، التي ترمي إلى تحقيق قيمة جمالية معاصرة من جهة، كما ترمي – بطريقة أو بأخرى- إلى رفع الحرج من جهة أخرى. الحرج الذي تحكمه المواضعات والأعراف لأسباب دينية واجتماعية معروفة، إذ يصعب عَرْض العُري كما يُعالجه طلبة الفنون من خلال الموديل Model (الموديل: جسد رشيق متناسق لامرأة ترتدي العُري المطْلَق، وبوِضْعَة Pose تُشَدِّد جمال الجسد). أعتقد أن كتاب «الأيقونة والجسد – نماذج من الفن التشكيلي المغربي» لمؤلفه الزميل إبراهيم الحيسن، والصادر عن منشورات جمعية الفكر التشكيلي، بدعم من وزارة الثقافة في 2014، جاء ليجيب عن مثل هذه الأسئلة وأخرى، بوصفها تحتاج للمعالجة والدراسة، خاصة أن الجسد المقرون بصفة العري في الثقافة العربية الإسلامية يظل ضمن الإشكال الذي يموضِعُه في حلقة الطابوهات التي تستدعي التحفظ والاستبار الوفير. ولذلك اعتمد المؤلف مقدمة أشار فيها إلى الأبعاد الفكرية التي أحاطت بتيمة الجسد، بدءاً بالفينومينولوجيا التي «اهتمت بالجسد من حيث اعتباره غلافا ماديا لذواتنا ودليلا لضمان حضورنا في العالم»، ونظرية العقد التي «حررت الإنسان من ذاته وأصبح سيدا لجسده»، والنظرة الاقتصادية الليبرالية التي «ركزت على الجسد البشري كقدرة حُرَّة على الإنتاج»، إلى الأبحاث الأدبية والفلسفية التي تناولت «الجسد» كقضية وإشكالية كما عند ميشيل فوكو (في كتابَيْه: «المراقبة والمعاقبة» و»تاريخ الجنون في العهد الكلاسيكي»)، وكذا التجارب السيميولوجية التي اعتبرت «الجسد» بناء رمزيا يعبر عن تمثلاتنا النفسية والثقافية، فيما «برز نتيجة إنتاجٍ تاريخي ثقافي وإيديولوجي متحول». في القسم الأول: «الجسد موضوعا للتشكيل»، ينحدر بنا الدارس إلى النحت الإغريقي باعتباره «وحده الذي قدم منذ العصور الكلاسيكية الأولى، الجسد المثالي كنموذج سام يتسم بالكمال وفق علم الجمال»، بحيث أثر هذا التوظيف المثالي للجسد على فناني القرن الخامس عشر، الذين تجرؤوا على إبراز الجسد (آدم وحواء بخاصة) بالاستناد إلى الكتاب المقدس، كما شخص استشهاد القديسين، مما مكن مايكل أنجلو من تصوير ونحت السيد المسيح عاريا، وفق النسب التي حددتها الكنيسة طبقا لمعايير الكمال. إضافة إلى الخلفية الميثولوجية القديمة (هرقل، أبولون، الحوريات الإغريقية)، في اتجاه تمثيلية العري بمعيار أخلاقي جديد، باعتبار الجسد الموضوع الأكثر إغراء لدى المصورين Les peintres والنحاتين، إلى أن تغيرت الأشكال التعبيرية لتمسي أكثر تمردا، بانتزاع الجسد من سياقه الجمالي وتحويله إلى «كتلة من الرموز والدلالات المجردة». وانتقالا إلى التجربة المغربية، وقف الباحث عند النزوع التجسيدي بوصفه حماسة وطنية، في مقابل الاستخفاف بإنتاجات الرسامين الفطريين من لدن المستعمر، مما دفع العديد من المصورين إلى تشخيص العادات والتقاليد والاحتفاليات الاجتماعية والدينية، بما فيها اللباس والمعمار العتيق. سيبقى «الجسد» الكيان التعبيري المغلف، إلى أن يلحقه العري والاختزال والتجزيء والبعد الجنسي مع فريد بلكاهية، والترميز الإيروسي مع محمد حميدي، والتموج مع محمد المليحي، والتراكب الهندسي مع سعد بن الشفاج، والتحوير الذاتي مع عزيز أبو علي، والترسيم الخطي مع بغداد بنعاس، والتحليق مع محمد القاسمي، والتخفي الجنسي مع عزيز السيد، والتكثيف الجسماني مع ميلود لبيض، والقهر الجسدي مع محمد الدريسي، والانمساخ مع عباس صلادي، والانمحاء مع سعد الحساني، والتصلب مع بوشتى الحياني، والتأنيث مع محمد بوزيان، والتعذيب مع خديجة طنانة، والانعزال مع فوزية جسوس، والأطياف مع محمد المنصوري الإدريسي، والاختزال مع عبد القادر لعرج، والاكتناز مع ماحي بينبين، والتضخيم مع حسين طلال، والحركية مع حسين موهوب، والنزقية مع عبد الكريم الأزهر، والمعاناة مع شفيق الزكاري، والمقدس مع نور الدين فاتحي…إلى غير ذلك من التجارب التصويرية. في مقابل ذلك، تطرق الدارس إلى «بشاعة التعري»، مؤكدا على «زوغ بعض الفنانين العرب عن سكة الفن، وفق ما خططت لذلك العديد من الإيديولوجيات المعادية لثقافتنا وهويتنا ووجداننا الجمالي»، مشيرا إلى الأعمال الأدائية للمغربي الفرنسي المهدي جورج لحلو، والتي خدشت مشاعر الكثيرين. كما وقف على التوظيف الجسدي في منشآت كل من منير الفاطمي وهشام بن أحد. وعلى مستوى البعد الثالث، وقف الباحث عند العديد من التجارب النحتية، التي تمحورت على «الجسد»، كما عند موسى الزكاني وعبد الرحمان رحول وعبد الكريم الوزاني وإكرام القباج وعطاف بنجلون. فيما تناول عدداً من التجارب الفوتوغرافية، التي تناولت الجسد الآدمي ضمن مقارباتها الجمالية، كما لدى سلمان الزموري ونور الدين الغماري وجعفر عاقيل والتهامي الناضر ومصطفى روملي ومحمد تاغزوت والسعيدي وصفاء مزيغ. وإذا كانت كل هذه التجارب وغيرها، تشترك في الموضوع وتتنافر على صعيد التوليف البصري والصياغة التقنية، فإن الدارس في هذا المؤَلَّف النقدي الوازن عمل على توزيعها عبر مجموعات تصنيفية منسجمة، كما أوجد لها التوْطِئات المناسبة والنافذة، التي تقوم على إلمامه الوافي بتاريخ الفن العالمي وبالنظريات الجمالية التي تؤطر مداخل الإبداع التشكيلي وفلسفاته ومعاييره العلمية والجمالية، مما يضع القارئ في السياق الدراسي وحيثياته. وذلك ما يعضد مقارباته وبحوثه الرصينة التي يوليها للفن المغربي المعاصر، الذي يعد من أهم دارسيه ومناصريه، بناء على المشاهدة والمعاينة والمتابعة الحثيثة والواعية، وعلى العشق القائم على الممارسة التطبيقية والرغبة في الرقي بالثقافة الفنية وآدابها، من منطلق الفنان والباحث المُجِد، والفاعل التربوي الذي لا يني يربط المُنتجَيْن الإبداعي والفكري بالمؤسستين المدرسية والجامعية. إن احتفال الباحث إبراهيم الحيسن بالمادية الفيزيقية للإنسان وتمظهراتها المرئية في هذا المصنف، إنما يدخل في صلب اهتماماته الفنية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية كمشروع متكامل يوليه كل وقته وطاقاته، بل يعدُّ استمرارا لافتتانه بموضوعة «الجسد»، منذ إصدار كتابه «رقصة الكدرة – الاحتفالية وطقوس الجسد»، الذي قدم له الزميل حسن نجمي في 2007، دون إغفال كتابه «السلطة والجسد – مقاربة للممنوع في ثقافة البيضان»، الصادر في 2014، والذي درس من خلاله تمثلات المجتمع حول المرأة في الصحراء. من ثمة، يبقى «فكرُه الجمالي متسقا رغم تنوع عناوين إصداراته وتباين مقارباته، بدءاً من أسئلة التراث الصحراوي ووصولا إلى معضلات الإستتيقا وقضايا الفن التشكيلي المعاصر» كما جاء في تصدير الزميل محمد الشيكر.
السكيزوفرينية النقدية شفيق الزكاري يذهب البعض ممن أتيحت لهم فرصة البروز في الساحة الثقافية المغربية، إما خضوعا لعراب parrain أو لتبعية اقتصادية معينة، لحد وهم تنصيب أنفسهم حراسا على الثقافة والمثقفين بهذا البلد، بما تمليه عليهم سلطتهم الوضعية أو الاعتبارية، فيتهيأ لهم مصادرة كل رأي مخالف لتصورهم، وكل اهتمام لا يصب في منحى اشتغالهم، فلا يجدون بدا من مناهضته بشتى أنواع الوسائل. وبمجرد ما يكبر هذا الوهم، يعتقدون بأنهم يملكون زمام الأمور ومفاتيح الخلاص، ليجعلوا من المبدعين لعبة في أيديهم، ومن تسول له نفسه بأن لا يؤدي الولاء فمصيره التهميش والنسيان والاحتقار، دون أن يعرف هؤلاء السكيزوفرينيون، الذين يتقمصون ازدواجية في التعامل مع الإنتاج الوطني، بأن قوة التاريخ وقوة الفعل الثقافي الحقيقي هو سيد الموقف، ودون أن يعرفوا بأنه عاجلا أم آجلا ستظهر الحقيقة وسينتصر الفعل الصادق على كل هذه الأوهام الزائفة. غالبا ما يطرح التشكيلي أسئلة بديهية أثناء مزاولة فعله الإبداعي، وهي: ماذا، ولماذا، ولمن سأنجز هذا العمل؟. أسئلة منطقية لا يمكنها أن تتحقق إلا بوجود المتلقي، هذا ما قاله وما طرحه على نفسه ولأول مرة الفنان الفرنسي مارسيل دوشان، ولهذا فالناقد هو الآخر محتاج بالضرورة للعمل الفني وللقارئ معا، وبدونهما لا معنى لوجوده أصلا. بمعنى آخر، أن المبدع هو البوابة لولوج الكتابة النقدية، وبدون وجود المبدع لا وجود للناقد، لأن دور الناقد ينحصر في تقريب العمل الإبداعي للمتلقي من وجهة نظره باعتباره صلة الوصل بينه وبين هذا الأخير، بآليات ومناهج تفكيكية تعتمد تارة على ما هو موضوعي في سياق البحث العلمي استنادا الى مرجعيات فلسفية أو سيميائية أو نفسية أو غيرها… وتارة أخرى بأسلوب شخصي نقدي انطباعي ككتابة عاشقة تدافع عن هذا العمل أو ذاك من منظور ذاتي. وفي كلتا الحالتين، إذا لم يتوفر شرط الاطلاع على تاريخ الفن برمته، سواء كان قديما أو حديثاً، بتراكماته المشهدية والكتبية، فلا معنى لهذه الكتابة، ولهذا ليس لأحد الحق في أن يكون وصيا على ما يكتب في هذا المجال إذا لم يتوفر لديه هذا الشرط الأخير، لأنه المرجع الوحيد الذي يمكن اعتماده في بناء مقاربة أو مقارنة تفضيلية. وبما أن هناك غيابا للبحث الأكاديمي بالجامعات المغربية في هذا المجال، فطبيعي أن يكون هناك غياب وعي بصري في المنظومة التعليمية برمتها، وطبيعي أن تطفو على سطح المشهد التشكيلي المغربي أقلام الارتزاق بأشكال متعددة، لتستغل الوضع لصالحها، ولتنصب نفسها وصية على قطاع الفن، لأجل الدفاع عن مصالح بعض المستثمرين في هذا المجال بعدما يتم الرهان على تجارب جديدة وليدة اللحظة بدون تراكم إنتاجي تاريخي، بدعوى الحداثة والمعاصرة أو ما شابه ذلك، من خلال هذه المصطلحات التي تستوجب وقفة تأملية حقيقية استنادا إلى دراسات عميقة ومتخصصة، وتستدعي التفكير، لوضعها في سياقها التاريخي، بعيدا عن أي تأثير أجنبي مختلف شكلا ومضمونا عن طبيعة الثقافة المغربية، هذا لا يعني تشكيل قطيعة مع الآخر كما يعتقد البعض من التابعين والمهرولين والمنبطحين…، بل هو الاستفادة من التجارب الأجنبية في إطار ثقافة ترتكز على تبادل فكري قوامه احترام متبادل بعيدا عن ثقافة التبعية والانبطاح. فمن السهل أن ينطلق الناقد من فرضيات منهجية جاهزة، لكن من الصعب أن يولد ويستنتج أفكارا موازية خضوعا لطبيعة العمل الفني، وإلا ستكون هذه الكتابة سردا وصفيا تمليه هلوسة ميتافيزيقية تختبئ وراء هذه النظريات الجاهزة، بعيدا عن أي إبداع في تقنية الكتابة والتوليد في هذا المجال. إن الأقرب إلى ملامسة جوهر الأيقونة التشكيلية نظريا وتقنيا، والتي برهن عليها تاريخ الكتابة النقدية بهذا الصدد، ليس النقاد وحدهم، بل الفنانون التشكيليون كذلك، إلى جانب الأدباء في بعض الأحيان، لأنهم يكتبون من داخل المطبخ الفني والمتخيل الإبداعي وليس من خارجه، وعلى سبيل المثال لا الحصر : زولا، تزارا، كوتيي، بودلير، مالارمي، أبولينير… سالفادور دالي، جورج ماتيو، فاسيلي كاندانسكي، تيتوس كارميل، وغيرهم. في مقال صادر بجريدة «القدس العربي» عدد 30 مارس 2015، تحت عنوان: «نقاد لا يعرفون بناء جملة صحيحة…» لصفاء ذياب، أوضحت هذه الناقدة على لسان الشاعر والكاتب العراقي عباس الحسيني، بأن «النقد قراءة ثانية ببصيرة تختلف جذريا عن فحوى وإنتاج النص الإبداعي قوامها المبدع وموشورها الناقد، ومتلقيها القارئ». وما ينطبق على النقد الأدبي ينطبق كذلك على النقد الفني، إلا أن ما يميز بينهما هو الاختلاف في المعالجة نظرا لاستناد النص الأدبي على القراءة، بينما تستند الأيقونة الفنية على المشاهدة، لكنهما يتقاطعان في نص نقدي مكتوب يعكس آليات ومرجعيات تحليلية مختلفة تعكس تجليات وخصوصيات المجال الذي تم الاشتغال عليه. كل ما راكمته الحركة التشكيلية المغربية في تاريخها، وإلى حدود كتابة هذه السطور، من إنتاجات إبداعية لم يحظ بمجاورة ومصاحبة نقدية فعلية على مستوى الكيف، باستثناء بعض النصوص النقدية التي توفر فيها الشرط المعرفي والأخلاقيéthique ، لمشروعية وصدق أصحابها، بينما نتج عن الحركة التجارية التي عرفها هذا المجال في الآونة الأخيرة، وبسرعة مفرطة امتدت بالتحديد من سنة 2006 إلى 2013، ظهور بعض الأقلام (النقدية) التي لا تشتغل إلا تحت الطلب لدوريات ومجلات باللغة الفرنسية، مستغلة مناصبها ووضعها الاعتباري والثقافي، مرتحلة بين شعوب الأدب لتستقر وتنبطح في حظيرة الفنون، نظرا لوهمية الإغراءات المادية التي وفرها السوق الفني، وما تدره من أرباح بئيسة، فتمكنت من هذا الوضع بادعاءاتها الفارغة والماكرة، لتنصب نفسها وسيطا بين الفنانين والمؤسسات، كمسؤولة عن تحديد أهمية العمل رغم جهلها المركب في هذا المجال في إطار سكيزوفرينية نقدية لم تكتف بالاشتغال داخل المغرب، بل تجاوز اشتغالها خارجه، وخاصة بالشرق، لتشكل جدارا منيعا ضد كل ما هو جاد، وكل ما قد يشكل خطرا على وجودها وكيانها.
الرأس والوسادة عزيز ستراوي ارتمى فوقها، واندس في حضنها. تقعرت الوسادة. قالت: آه ما أثقلك هذه الليلة! قال الرأس: خبئيني. اطمريني. أبدا لن أعود إلى هذا الجسد المهدود. لقد أتعبني. دوخني بهمومه ونكده. قالت الوسادة: لن أنفعك بشيء فأنا كما تعلم وسادة خشنة..جرب حبل المشنقة. لن يخذلك. سيفصلك عن جسدك، وتنعم براحة أبدية، أو من الأحسن أن... توقفت الوسادة عن الكلام. كان الرأس قد غرق في نوم عميق، وتعالى شخيره إلى الأعالي. قلقة !حائرة! لا تعرف الوسادة ما يمكن أن تفعله من أجل هذا الرأس الشقي الذي تنوء تحت ثقله.. وبكل حنو ورقة حضنته، ثم طوقته، وبكل قوة أجهزت عليه، فكتمت أنفاسه، وأخرست شخيره وهي تذرف دموع الرحمة.
الكينونة المضاعفة ورهاناتُ الحداثة.. اقتراب تأويلي في ديوان «الثلجنار» محمد الديهاجي نتصور أن القصيدة الزجلية الحداثية بالمغرب جزء لا يتجزأ من الشعر المغربي الراهن، وأخذا بمبدأ المقايسة، نتصور كذلك أن القصيدة الزجلية الجزائرية هي خطو على نفس التوصيف؛ مثلما نتصور، عطفا، أن الحديث في هذا المقام عن رهانات القصيدة الزجلية ونداءاتها لن يستقيم إلا بوضعها في مواجهة السياق العام لمطمح تحديثها ببلاد المغرب على الأقل. فلئن كانت الحداثة تعني ضمن ما تعنيه الانفتاح على آفاق مشرعة على الممكن والمستحيل الثاوي في الأقاصي والتخوم؛ أي أن الحداثة هي إقامة في رهانات نداءاتنا المصوبة جهة المستقبل والتشوف إلى ثنياته بما هو أحد أهم اشتراطاتها، فإن شرارة التحديث الحقيقي والفعلي في مشهدنا الزجلي قد انطلقت تماما مع جيل الرواد. أفكر هنا في الشاعر أحمد المسيح، مثلما أفكر في الشاعر إدريس المسناوي، ومن تلاهما من الشعراء، آثرتُ وسمهم بشعراء الحساسية الجديدة، بعيدا عن أي تصنيف أو تحقيب أجيالي حتى، على رأسهم شاعر الإيروتيزم الأول الشاعر مراد القادري (الإيروتيزما هنا بالمعنى الفني لا الأخلاقي)، وكذلك الشاعر الهدار رضوان أفندي، وبوعزة الصنعاوي بأسلوبه الكاريكاتوري، وإدريس بلعطار، وآخرين. والشاعر عادل لطفي هو واحد من هؤلاء الفرسان المخاطرين. ليست المخاطرة عند نيتشه سوى اجتثاث أساطين المألوف والمواضعات مع قدر غير يسير من التصيُّر وفق مبدأ «إرادة القوة»، بما يُجزي للذات من إمكانات محتملة ومتدثّرة في رداء الخلق. والحق أن الشاعر المائز عادل لطفي، وهو يُهندم عن سبق إصرار وترصد، هندام العمل المشترك، يكشف، منذ البداية، عن إيمانه الراسخ بالآخر كامتداد موضوعي للأنا، ضدا على كل أنا طهرانية وميتافيزيقية، وضدا على كل أصولية جمالية كانت، لاشك في ذلك، العلة في فداحة التنميط، على اعتبار أن الأولى قرينةٌ تقليدانية لا تؤدي إلا إلى الثانية. أما وأن يقع الاختيار على صنوه من بلاد شقيقة بالفعل والقوة، أقصد بلاد الجزائر، فتلكم إشارة أخرى تزكي الزعم أعلاه. والشاعر هو عبد الرزاق بوكبة. وأنا أتصور أن القصيدة الزجلية الجزائرية وشقيقتها المغربية صنوان مع قوة التمايز والاختلاف الشعري كحق تقتضيه الحداثة وترتهن به. الحداثة في توثبها اللا ينقطع، وتشخصنها الرؤيوي عند هذا الشاعر أو ذاك، ضدا على كل ميتافيزيقا شعرية أو دوكسا جمالي. ليس من شك أن العنوان في النظريات الأدبية الحديثة أصبح على قدر كبير من الأهمية، فهو بمثابة الرأس للجسد كما يقول الدكتور محمد مفتاح. إن العنوان من هذه الحافة هو بداية المسافات المقاسة بالتخييل، بله توعُّرٌ واستبطان للمحتمل وفيه. إن العنوان شرودٌ وعزلة نكاية بالمعطى الأنالوجي، وهو مفارقة دائمة باستيلاد اللا ممكن من الممكن. والمتأمل لعنوان هذه الإضمامة الشائقة والشيقة قيد المدارسة والمداعبة سيكون في إمكانه أن يلحظ بالبداهة تلك الغرابة المدهشة والمؤسسة على القلب إيذانا بشعرية جديدة آثرت نعتها بشعرية المفارقة. هي مفارقة ليست صُدفوية ولا حتى اعتباطية، وإنما هي متلبّسة بقصدية ظاهراتية باشلارية تحديدا، في بناء وتشييد صرح كينونتها المتعاكسة وفق ما يمكن تسميته ب»الصورة الفارغة»، تلك الصورة التي يمحوها بعضها، إيذانا بميثاق جديد بين الشاعرين والقارئ منذ العتبة الأولى. فأن تجمع بين الثلج والنار في عبارة واحدة، بين الشيء وضده، فإنك لا محالة تسعى جاهدا إلى المجاوزة بها ولها. المجاوزة ها هنا باعتبارها أحد أهم اشتراطات الحداثة. إن جمعا من هذا النوع لهو تشوف حاذق لأفق مبتهج، وسعيٌ دؤوبٌ من طرف الشاعرين نحو تخلّق كينونة مضاعفة وشيكة ومتفتحة على صيرورتها بكل احتمالاتها، حتى وإن كانت مربكة لهما ولقناعاتهما الخاصة. إن شئتم الدقة أقول إنه تصيُّرٌ بين تجربتين، بين شاعرين مختلفين، حتى لا أقول متناقضين. أعود إلى عبارة «الثلجنار»، وهذه المرة انطلاقا من مبدأ المقايسة مع الخلفية الإبستيمية للفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار. فالثلج عند بوكبة هو الماء عند باشلار. والنار لهب. وهما معا عنصران ضمن العناصر الأربعة المكونة لكوسمولوجية الكون: الماء، النار، الهواء، والتراب. أصل الثلج ماء ومآله التحول إلى ماء كامتداد أفقي، عند باشلار. أما النار فهي لهبٌ ذاتُ ألسنة عمودية. وفي كل «كائن عمودي تسود شعلة، بشكل خاص الشعلة هي العنصر الدينامي للحياة المستقيمة» (عن باشلاريات لسعيد بوخليط). والشاعر باعتباره كائنا عموديا، هو كذلك شعلة، ويدُهُ شعلة لأن مسار خطها عمودي حتى وإن بدا أفقيا. وهي-اليد-، بذلك، شعلة يستضيء ويحترق بها. والوعي بهذه الدلالة لا يتحقق إلا لشاعر يُنصتُ جيدا لهسيس اليد الملبد بالضوء دائما. فهل التقاء العمودي بالأفقي في مسار هو من الأغراض المستدعية للحالومية في هذه الإضمامة؟. من هذه الخلفية الإبستيمية ينطلق الشاعر عادل لطفي في بناء عوالمه الحالومية، إذ يُصرّح بذلك غمزا ولمزا في توطئته ل»كتاب النار» التي تضمنت قولة لباشلار. فالنار شمس وروح وقصيدة. يقول: النار/ طرف من الشمس/ طرف يتيم (ص79). النار/ روح العنقا (ص81). القصيدة جمرة كادية (ص84). أما الشاعر عبد الرزاق بوكبة فيقول – في مفارقة ضاجّة بالغرابة المستقوية بالجمع بين ما لا يُجمع، بين الثلج والنار، منتصرا للنار كباعث على الحياة-: رميت شوقي ليك/ في الثلج / زاد شعل (ص59). جداتي تحكي لي في ليل الثلج/ وانا نفكر/ فريقك/ حطت جمرة في فمي/ قلتل (ها) ك: هذا عشاي (ص61). لقد تحول الثلج، في لعبة القلب، إلى نار، والنار صارت طعاما، وتأسيسا على ذلك يمكن اعتبار النار، عند الشاعرين معا، عاملا محرضا على الحب، والكتابة، والحياة في أرقى وأبهى تجلياتها. أنبه هنا إلى أن الشاعر بوكبة لم يقتصر فقط على هندمة كينونة جديدة للأشياء، بل تعداها إلى ابتداع كلمة جديدة من خلال الجمع بين ضميرين في عبارة واحدة: قلتل (ها) ك، مما أجج المعنى وجعله مضاعفا، لتُصبح الكلمة حمالة أوجه. ولعمري هذه علامة فارقة في التجديد تستحق التنويه. من ضمن ما ينهض عليه فعل الكتابة في هذه الإضمامة الرائقة المكر والشيطنة. يدان لا تكتبان إلا لتمحوان. وما أقسى أن تقول الشيء وتمحوه، محتفظا فقط بما لا ينقال، بالطروس والأثر (أفكر في دريدا هنا)، وأحيانا بأثر الأثر بتعبير عبد السلام بنعبد العالي. كثيرة هي التوصيفات التي يمكن نعت بها هذه التجربة المشتركة؛ كالعماء والانقطاع والتوتر في وعاء كارثي يذكرنا بنظرية روني طوم. دعونا نتوعّرُ أكثر في متاني هذه الإضمامة، وستكون الفاتحة عبارة عن مقبوس شعري للشاعر بوكبة يعرف فيه الثلج تعريفا بدائيا، غير أني أرى فيه مكرا وخداعا لأن تعريفا آخر يتخفّى وراءه بخصوص مفهوم الشاعر للكتابة. يقول: الثلج ورقة كبيرة/ فتتها جوع الشتا/ لمّيتها/ وهديتها/ للصيف باش يكتب/ حمتو (ص21). وإذن بداية المكر في هذا المقبوس هو بيان الكتابة المُضمر في التجاويف الباطنية للومضة. فالكتابة عند الشاعر لا تستقيم إلا على ورقة من ثلج منذورة للذوبان، للمحو، ومهداة للصيف لكي يكتب عليها، لكي يحرقها؛ ربما. يا لها من قسوة. أيكون الشاعرُ قاصدا بذلك الكتابة المضادة، ويُقرنُها من ثم بالحرق إسوة بمأساة أبي حيان التوحيدي، أو إسوة بفراشة تحترق على مدار شعلة قنديل؟ وإذا صحّ الأمر،ُ هل يمكن اعتبار الشاعر، وهو يؤسس لوعي بويطيقي جديد، قد تخطى الوعي الشعري الرؤيوي، ذاك الذي اعتبر الشعر قبسا من نار حكمة انتزعها بروميثيوس من سماء ضالة؟ يجيبنا عادل لطفي قائلا: ملي صرت نار/ حرقت وردة/ ندمت/ مالقيتش الدموع/ باش نبكي جيت لهاذ الكسدة/ تسد باب الرجوع/ من يد بروميثيوس/ لقنديل ديوجين/ لشمعة باشلار/ ومازال شاعل/ كتاب النار (ص127-128). توحي ومضة شاعرنا الجزائري بخداع قشيب مضمونه يقول إن هذا الشاعر سيُهدي الورقة للصيف، للتدقيق قل إنه سيسلمها لشاعر النار عادل لطفي. هي إذن كتابة بالتناوب. يد تكتب وأخرى تمحو. نقرأ في الصفحة 82: فنار شوقك/ ذابت حروفي/ شرق كلام. إن الكتابة عند عادل لطفي هي قناع للنار ليس إلا. نارٌ حارقةٌ كلما هجرت الشاعر وابتعدت عنه. يقول: القصيدة جمرة كادية/ بغى يطفيها السكات/ ما قدرش. (ص83). لقصيدة نار/ كتعشق، كتضوي، كتدفي، وكتحرق/ لقصيدة نار/ ما كتطفاش (ص120). لقد أصبحت الكتابة نارا وجمرة، ما جعلها تتوشح بوشاح تطهيري من خلال رمزية العقاب. وبذلك أزعم أن الكتابة عند عادل لطفي استرجعت بعدها الرُّسولي المفقود في «التلوين». يا لها من مفارقة. لندع العجلة جانبا، ولنجمّع تلابيب البعدين تحت مسوغ: الما / يلا عطش/ يعانق النار (ص86). آنئذ سنكتشف أن الكتابة ثلاثية الأبعاد في مقام «الكتبة» عند الشاعرين: الحرق – الاحتراق – التطهير. الاحتراقُ طريق سالك نحو الخلق والتجدد الهيراقليطي. لنا أن نتذكر المعري وأبا تمام والنفري وطه حسين وسركون بولص وجان دمو وآخرين. لقد كانت لكل هذه الأسماء أياد تحترق وتكتب مرتعشة بالمطرقة. الكتابة بهذا الشكل سليلة الكتابة بالأرجل، التي كانت وما تزال العلة في رجة النص المتشظي أو النص الجينيالوجي عند نيتشه. أن تكتب برجليك عليك «أن تتقن قبل كل شيء فن الهدم، وتفجير القيم» (نيتشه: هذا الإنسان. ص123)، بما في ذلك قيم الكتابة، أي عليك أن «تتشعرن» بالمطرقة . ثمة إذن رغبة ملحة من قبل الشاعرين في فتح جرح في مفهوم الكتابة الزجلية. جرحٌ تعرض للنسيان والثني بلغة هايدغر. وإن بسط هذا الثني لن يتم، في نظرهما، إلا بوضع اليد الكاتبة في مواجهة نفسها، والكلام في مواجهة الصمت، والنار في مواجهة الثلج. إن فعل الكتابة في الديوان يُغاير نفسه باستمرار، مبشرا بشعرية جديدة والمُشار إليها أعلاه بشعرية «القلب والمفارقة». والقلب «قلبٌ في نظام القيم». فالثلج نار، والكتابة محو، والجمرة قُبلة، والقبلة طعام. ليس من شك أن ذلك يشكل أوج المفارقة، إذ تؤجج دوال الكتابة بحثا عن كينونة مضاعفة، وعن تخلق ميتا- زمني لكتابة ضدية وصدامية.
في العلاقة مع الكتابة عبد العزيز بركة ساكن كنت في غرفتي، وهي عبارة عن بناية صغيرة من طين اللبن وبعض أفرع الأشجار الغليظة والبامبو في مدينتي الصغيرة «خشم القربة». بنيتها بنفسي بالطوب الذي صنعته من ذات تراب البيت في مجرى مائي قديم قمت بدفنه وتحويله لاتجاه آخر، على الرغم من تحذير الجميع لي بأن الماء لا يترك مجراه، ولكن لخيبة ظنون الجميع لم يعد إلى مجراه حتى اليوم، مما أكد لأمي فكرتها الأساسية عني عندما داهمتني فيه وأنا أضع أمامي كومةً كبيرةً مِنْ الأوراق، وفي يدي قلم كُوبيا، أدون أشياءَ لا تنتهي بصورة متواصلة. قالت لي: «يا عبدو، وهذا هو الاسم المُحبب لديها ولَدَيَّ، هل تدري ما تكتب؟» قلت لها: «نعم»، قالت لي: «لا.. أنت لا تدري ماذا تكتب، لأن ما تكتبه هو ما يمليك إياه الشيطان الذي كان يسكن معنا في البيت بالقَضَارِفْ وأنت صغير. لقد كان صديقك. هل تذكره؟». وكنت أيضاً أعرف أنَّ كثيراً من أفراد أُسرتي يعتقدون بأنَّ لدي شيطانا في بيتي، وأكد خالي جبريل -عليه الرحمة- إنه رآه ينزل ذات صباح باكر من شجرة التمر الهندي التي في فناء داري. يلبس جلباباً أبيضَ ناصع البياض ويدخل إلى حُجْرتي. ورأته ابنة خالتي، وهي عادة ما تستيقظ مبكرةً لصناعة كسرة الخبز التي تبيعها لأحد مطاعم القرية: «لم أتعرف على ملامحه تماماً، ولكنه كان عبارة عن كُتلة سوداء تفوح منها رائحة عفنة، وصوته أشبه بالشخير، كان ينظر إليّ عبر نافذة المطبخ، وعندما صرختُ، هربَ ناحية بيت عبدو، الذي لم يكن موجوداً حينها في المدينة». إلى اليوم، حيث إنني أسافر كثيراً في البلدان، أترك بيتي دون حراسة، لا لأن ليس به مَا يُسرق غير الكتب ومخطوطات كتبي التي دونتها في أزمنة لم يكن فيها الحاسوب الآلي مشاعاً للفقراء، لكن لأن اللصوص يعرفون أن ببيتي شيطانا: «يحرسني ويؤلف لي الروايات والقَصَصْ، ويصيبني بقدرِ من اللعنةِ معقول. لا يريدون نيل جزء منها ولو يسيرا». لذا عندما اُعتقلت أول مرة في عام 1993، قالت لي أمي -عليها الرحمة- مرة أخرى: «يا عبدو خلي الكتابة». عندما اُعتقلت في مرات كثيرة لاحقات كان يطالبني ضباط الأمن بأن أترك الكتابة «استرح وأرحنا». في عام 2012، عندما أخذني شابٌ صغيرٌ من قواتِ الأمن الوطني إلى مكتب الاستخبارات بمدينة الدمازين قال لي: «اُكتب لنا كل أسماء كتبك وموضوعاتها واعطني إياها في ذاكرة إلكترونية، واكتب لي إقراراً تلتزم فيه بألا تنشر هذه الكتب، لأنها ضارة بالمجتمع». ولأنني أطيع رجال الأمن وخاصة العنيفين منهم، الذين يستخدمون جُملاً مباشرة لا لبس في ما تعني، وأعلم أيضا أنَّ الروائي مخلوقٌ ضار، لأنه يَخِل بوضعية السُكون الكسول التي يفضلها ولاة الأمر؛ تلك المحببة للمجتمع، كتبتُ الإقرار وكسبتُ حريتي. لكن شيطاني اللعين الماكر لم يرضه ذلك، حيث وسوس في صدري بأن أحْضِر كُتبي التي نشرتها بالقاهرة إلى معرض الكتاب بالخرطوم في نفس العام.. كانت اللعنة الكبرى، حيث تعرضت حياتي لأول مرة لخطر الفناء الأبدي من خريطة الأحياء، وكدتُ أسجل حضوراً دائماً في دفتر الموتى لولا أنني هربتُ للمنفى حيث أقيم الآن في قريةٍ نائيةٍ وسط جبال الألبْ. الجانب الآخر من لعنة الكتابة كان عاطفياً. ربما لشيطاني ابن مدينة القَضَارِفْ الذي تعرفه أمي وله دور كبير. هنا أستطيع أن أقول إنها شيطانتي، لأنها أظهرت عداوةً للمرأةِ ومقتاً حامضاً مستخدمة شيطنة الجن ومَكْر النساء الذي ذُكر في بعض الكُتُب السماوية وألمح إليه السيد بُوذَا نفسه ذات صفاء لتلامذته. الدليلُ على ذلك أنني عازب الآن. بيتي يخلو تماماً من تلك المخلوقة الرقيقة ذات الصوت الحنون التي تربت على كتفك في الصباح الباكر طابعةً قبلةً دافئةً على خَدكِ المُعشوشِب بالشَعَرِ الرمادي أو على شفتيك الجافتين نتيجة لعطش أصابك في حلمِ ليلةِ الأمس الصحراوي أو كوابيسك الكثيرة التي تتواصل نومةً بعد نومةٍ بأنك تُشوى في مِقْلاةٍ بالجحيم مثل ديك رومي ليلة عيد الميلاد. تقريباً كل النساء اللائي عشقتهن – وهن كثيرات بالطبع – وكل النساء اللائي عشقنني -وعددهن مقدرٌ ومعقول – اللاتي تزوجتهن وطلقنني، وهن لسن كثيرات كما يتبادر إلى ذهن البعض، وحتى الصديقات المقربات وغير المقربات مثل سلمى ومي وعلوية وسُونيا وماريا وسلوى وغيرهن، اتفقن على جملة واحدة قلنها لي في أوقات شتى، بطرائق مختلفة وأساليب عدة، وفقاً للغاتهن الأم وطريقة نطقهن للكلمات وسعة خيالهن ونوع العلاقة التي تربطني بهن: «أنت عندك حبيبة واحدة، هي الكتابة، ولا قلب لك ولا تعرف كيف تحب». كُنَّ يغادرنني غير مأسوف عليَّ وحيداً مصاباً بلعنتي. أو مع شيطانتي، أو بنت إبليسي التي وهبتني مجداً أدبياً ولعنةً طازجةً مباركةً بلا نساء ومطاردةً دائمةً من قِبل السُلطات، وحسداً وغيرةً من جانبِ الكثيرين، ووحدة لا حدود لها. الكتابةُ ملعونةٌ ولاعنةٌ. وهي مضرة بالمجتمع لأنها رجس من عمل الشيطان. هي محاولةٌ منه يائسةٌ لتدوين ذاكرة الانحراف البشري. لذا يصطاد هذا الجِنُي من البشر أصحاب الخيال الثر وأغلبهم من ضِعاف الإيمان الذين يعانون من وهن الذاكرة مصحوباً باختلال التوازن النفسي حيث يحاولون معالجة ذلك عن طريق فعل التدوين، وخلق الأكاذيب السردية البالغة الغرابة. كثيرٌ منهم ملحدون. بعضهم تنبذهم مجتمعاتهم الخيرة المؤمنة وترمي بهم في الفيافي والمنافي البعيدة. ثم تعود في وقت ما، آسفة وتتوجهم بما تشاء من الألقاب المُدهشة، هذا إذا نجوا من الذبح الرحيم. في الغالب يحدث ذلك بعد قتلهم بالإهمال أو الْمُدَى. إن المجتمع يَخاف من كل الكُتَّابِ والكُتُبْ: حتى تلك المُقدسة. لذا كانوا يقتلون الأنبياء خوفاً من اللعنة التي قد تجرهم إليها زِبَرَهُمْ، ورحمة بالأنبياء أنفسهم. أما المُؤلف المحظوظ فهو المؤلف الذي لم يكتب كتابه بعد، الذي لم يعلن عن لعنته، إلا أنه يظل مثل القنبلة اليدوية. يمكنك أن تحتفظ بها في بيتك طالما لم تنزع فتيلتها. أما إذا فعلت. فعليك أن ترمي بها بعيداً وتلقي بنفسك على الأرض محتضناً التُراب بكامل جَسدك مخفياً أذنيك تحت كفيك الباردتين، صارخاً بأعلى ما أوتيت من صوتٍ كما في أفلام الحرب.