لم يفز اليسار المغربي في انتخابات أكتوبر 2016 التشريعية. جاءت نتائجه هزيلة وضعيفة ولم ترق إلى مستوى تاريخه النضالي وما يمثله في المخيال الشعبي؛ فالمشكلة الآن ليست في معرفة مَنْ صَوَّتَ لِمَنْ، بل في مُسَاءلة عسيرة وقاسية لكل مسؤولي الأحزاب اليسارية لطريقة تدبيرهم ما قبل العملية الانتخابية وما بعدها. لا يمكن أن نلوم الشعب على سلوكه الانتخابي ولا يتوجب على الخاسرين أن يعلقوا مشجبهم على المواطن المغربي؛ فهذا الأخير وضع سابقا كل ثقته في أحزاب بدت تدافع عن مشروع حداثي ديمقراطي وتنموي، فانقلبت أغلب أطره على تلك القناعات وارتمت في أحضان الريع والامتيازات. هل أن اليسار المغربي لم يكن في مستوى اللحظة الانتخابية؟ هل كان برنامجه باهتا ولم يرق إلى ما جاءت به بقية الأحزاب؟ أم راهن على فئة من المهرجين رأسمالهم الوحيد هو الصياح، ليل نهار، بقيم الحداثة والديمقراطية دون أن يقدموا سياسات بديلة واقتراحات عملية تجيب على مشاكل المجتمع الكثيرة، وتلجم اكتساح الآخر المختلف أيديولوجيا ومرجعيا بشكل موضوعي؟ الحقيقة أن اليسار المغربي، ممثلا في الاتحاد الاشتراكي، لم يستطع تزعم دور معارضة قوية داخل البرلمان وإعطاءها نفسا إصلاحيا باقتراح برامج جديرة بالاهتمام والدفاع عنها، وفشل انتخابيا في نزع مقاعد تؤهله لدور متقدم في صناعة خارطة سياسية متوازنة رغم ادعاءات رئيسه بأنه سيتقدم كل الأحزاب داخل البرلمان. وها هو الاتحاد الاشتراكي متزعم اليسار المغربي لم يتحصل سوى على 20 مقعدا، فيما حزب التقدم والاشتراكية الذي شارك في الحكومة بحقائب وزارية وازنة لم يحقق سوى 12 مقعدا، ومقعدان لفيدرالية اليسار الموحد رغم أنها تشارك لأول مرة في انتخابات تشريعية. لماذا لم يستثمر أمين عام التقدم والاشتراكية نبيل بن عبدالله موقعه كوزير للسكنى للتقرب من هموم المواطنين والبحث عن حل لإشكاليات تمس كرامتهم في السكن والمأوى؟ ما معنى أن ينجح كل وزراء العدالة والتنمية فيما يفشل هو في الرفع من عدد نوابه بالبرلمان كما الانتخابات الماضية؟ ونتذكر نتائج عام 2002 عندما حصل الاتحاد الاشتراكي على 50 مقعدا في مجلس النواب متصدرا النتائج آنذاك. لكن الصراع الداخلي والخلافات المزمنة بين أقطاب وفروع الحزب حول من يقود الحكومة أثّرا على علاقته مع الاستقلال الذي حصل على 48 مقعدا، والنتيجة نُسِفَت تجربة التناوب الديمقراطي بعدما اضطر العاهل المغربي إلى اختيار تكنوقراطي لقيادة الحكومة. لا يجب تعليق فشل التقدم والاشتراكية والاتحاد الاشتراكي على أحد، ولا نتوقع من مكتبيهما السياسيين أن ينصبا المقاصل الديمقراطية لتحقيق مبدأ المحاسبة. فيدرالية اليسار لم تتجاوز مقعدين رغم خطاب زعيمتها نبيلة منيب المفعم بالحيوية والجرأة التي افتقدناها عند سياسيين تدربوا على تنويع مصادر الدخل الريعي. نبيلة منيب الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد، قالت إن "مشروع فيدرالية اليسار الذي نحمله بهدف التغيير بدأ يشق طريقه في البلاد؛ فالمغاربة وثقوا في مشروعنا الذي يعد الأقوى لأنه يقدم إجابات حقيقية على الإشكالات الكبيرة". لكن هل تحمل النفس الطويل والأدوات الكفيلة بتحقيقه؟ اليسار المغربي لن يتصدى بقوة للمساهمة في معالجة مشاكل التنمية والنمو الاقتصادي والهدر المدرسي والفساد الإداري، ويصعب عليه الوقوف في وجه كل من يريد اختراق استقرار البلد والتأثير على قراره. فقادة اليسار الحاليون لن يقوموا بهذا الدور، لسبب بسيط، هو أنهم السبب الرئيسي الذي أوصل أحزابهم إلى هذه الدرجة من الميوعة وعدم الثقة في النفس والمجتمع. من خلال نتائج الانتخابات التي كشفت عورة الأحزاب اليسارية يتبين أن الذين يديرون دفة تلك التنظيمات السياسية يحتاجون إلى دورات تكوينية في كيفية صناعة التوازن والتضامن داخل أحزابهم، ويظهر أن غياب الديمقراطية الداخلية وتغييب الكفاءات وتكريس الزبونية أسباب محورية في عدم تطوير منظومة فكرية تنتج مشاريع وأفكارا مبتدعة وحوكمة صارمة. لقد فقد الاتحاد الاشتراكي قواعده ويدخل الآن في مرحلة سبات خريفي بعد النتائج المتحصل عليها في تشريعيات أكتوبر 2016. لم يستفد الحزب اليساري من نتائج الانتخابات المحلية والجهوية العام الماضي، ولم يتجرأ قياديوه على نقد ذاتي يعيد للاتحاد البعض من وهجه السابق، وهم يبحثون حاليا عن شماعة يعلقون عليها فشلا صنعوه، وصراعا داخليا كرسوه. كم سيحتاج اليسار المغربي من الوقت لرص صفوفه والبدء بحرث أرضه وبذر بذوره؟ هذا يتطلب من القائمين عليه مشروعا نقديا ينطلق من الوضعية الحالية ويستثمر الإخفاقات، والابتعاد عن الطهرانية الأيديولوجية وتعويضها بتكتيكات ميدانية لإعادة الثقة في الأحزاب لا الأشخاص. فوز العدالة والتنمية ليس نصرا لفكر ابن تيمية كما يسوق البعض، لكنه حالة فاصلة لنفض الغبار عن المشاريع الحداثية.