على إثر بيان منتدى الكرامة لحقوق الإنسان المندد بالخروقات الرهيبة التي عرفها ملف بنحماد والنجار من زاوية حقوقية محضة، اعتصر بعض المتنمرين أدمغتهم الضامرة و لطخوا صفحات بعض المواقع بكتل من كلام حمئ مسنون فضح نرجسيتهم و سوء نواياهم، لا لشيء إلا لتصفية حسابات شخصية و كسب رضى جهات معينة، متوسلين إلى ذلك بكل ما استطاعوه من تشويه سمعة الأفراد، و التنكر للمبادئ التي لطالما تشدقوا بمناصرتها. ما جعلنا نستغرب ليس هو حجم الحقد و عدد المغالطات وكثافة الشتائم التي فاه بها هؤلاء، بل هو الوقاحة و الصفاقة التي تسلحوا بها عندما تقمصوا صفات "الخبير الأمني" و " الفاعل الحقوق". أعتقد أن لكل شخص أن يتفوه بما شاء سواء كان ذلك تعبيرا عن رأي أو تسفيها لقول أو تعليقا على موقف، و سواء التزم في ذلك حدود الأدب أو تجاوزها إلى النذالة، و سواء حرص على الموضوعية و الصدق أو تجرأ على الافتراء و الكذب، ثم ليتدافع قوله مع الأقوال، و ليأخذ الناس و ليدعوا منها ما شاؤوا يزنونه كل بميزانه. لكن، لنتفق على الأقل على شيء واحد: ألا يزعم المرء لنفسه صفة كاذبة ليضفي على كلامه مصداقية لا يستحقها، لأنه حينها لن يكون فقط شاهدا بحق أو باطل، بل سيكون محتالا. هكذا قدم بعضهم نفسه بصفة "الفاعل الحقوقي" و"القاضي السابق". الفاعل، ما الفاعل؟ و ما أدراك ما الفاعل؟ الفاعل الذي يأتي الفعل، و هو حركة الإنسان كما جاء في المحيط. و ليس كل فعل حسنا، فمن أتى فَعالا فقد أحسن، و إلا كانت حركته فِعالا مستقبحة، فمن نسب نفسه إلى الفعل فحري به أن يرقب ما يقترفه. على أن الفعل ليس كالقول، فبينهما فج عميق لا يجوزه إلا أولو العزم. كما أن الأفعال ليست على شاكلة واحدة، فمنها الصحيح و المعتل، و أدنى درجات الاعتلال "المثال"، و أقصاها "الأجوف". و يتميز الأجوف باعتلال ماضيه، فليحذر الفاعل المشتق من فعل أجوف أن ينكشف من ماضيه المعتل شيء. و الحقوق في كثير من الاستعمالات المعاصرة ترد اختصارا لعبارة "حقوق الإنسان"، كحال الذي وصف نفسه بالفاعل الحقوقي، فهو يريد أنه يفعل في شؤون حقوق الإنسان. فإذا عُلم أن العرب تقول "فلان حامي الحقيقة" لمن حمى ما يحق عليه أن يحميه (مقاييس اللغة)، فلعل مراد من يجعل نفسه "فاعلا حقوقيا" أن يزعم أنه مناهض للباطل منافح عما يجب للإنسان ذائذ عن حماه. لكن نظرة بسيطة على ما تفوه به المعلوم تفضح بعده عن مسلك الذوذ عن الإنسان و مجابهة الباطل، و تخبر عن قبح فعاله و اعتلال ذهنه و تقلب أحوال ماضيه و حاضره. فلا هو ممن عرف عنه الفعل، و لا هو ممن طاب منه القول، بل معلوم أنه لم ينافح عن غير ذاته، مغرق في تزويق ما قبح من صفاته. و ما أرى فعله في الحقوق إلا أقوالا نرجسية جوفاء يتجنى بها على الناس لعله يدرك من ذلك تقديرا لا يستحقه. و قد أضحكني تمسك الفاعل بصفة "قاض سابق"، و إنما يكون السبق في الفضل، و لست أعلم له من فضل، أما السبق في الزمان فغير متحقق لأنه من المتأخرين، و كان الأصوب أن يقول "قاض متأخر معزول". لم يكن "الفاعل" ليدرك، قبل نعت بيان المنتدى بالجهل، أن بين البيان الحقوقي و المرافعة القانونية بونا شاسعا، و ذلك لضعف تكوينه القانوني و قصور وعيه الحقوقي، مما يدعو إلى التساؤل عن المقاييس المعتمدة في التكوين و منح الشهادات. لكن، أنى له أن يتواضع لجهله، فهو "القاضي ال…"، و هل يستطيع أن يتحرر من سيطرة تكوينه النصي الحرفي ليفهم أن المقاربة الحقوقية لا تخضع لقيود النص القانوني، بل تتسامى عليه و تخضعه للتقييم وفق معياريتها الخاصة؟ بالتأكيد لا يستطيع، فقد أكد "الفاعل القاضي ال…" أن "الحرية هي أن تتناغم مع ما يسمح به القانون، و هذه من أبجديات القواعد القانونية و الحقوقية" اه. و إني لأنصحه صادقا بأن يحفظ حقوقه الأدبية على هذه المقولة و يودع براءة اختراعه الفريد حتى لا ينسب هذا السبق العظيم في تعريف معنى الحرية إلا إليه، فلا يُظلم به غيره إذا ما تندر به الباحثون. يقول صاحبنا: "إن التحجج بالحرية الشخصية أو بحماية الحياة الخاصة لا مجال له في حالة ارتكاب الجرائم، لأن الحقوق و الحريات ليست مطلقة بل مقيدة باحترام القانون." سذاجة و بساطة عقل لا مزيد عليها تذكر بكراريس السنة الأولى في كلية الحقوق. لو كان الاشتباه بارتكاب جريمة يجرد المشتبه به من كل حرياته الشخصية و من الحق في حماية حياته الخاصة و من الحق في حسن معاملته و صون كرامته، فما حاجتنا إذن إلى "الضمانات" و القوانين الإجرائية؟ و ما معنى "قرينة البراءة" إذن يا قاضينا ال…؟ و فيم معاهدات محاربة التعذيب و تجريم المعاملات المهينة و الحاطة من الكرامة، و فيم الحماية من الاعتقال التحكمي و حق الشخص في عدم توريط نفسه، و ما ينحدر عن ذلك و غيره من حقوق؟ من الواضح أن قاضينا لا يفقه من حقوق الإنسان إلا أسماءها أو أدنى من ذلك، و أنه إنما اتخذ التعليق على البيان مطية لينتقم من المنتدى إذ لم يتضامن معه عندما تجاوز "حرياته المكفولة بالقانون" و لم "يتناغم معه". لكن، كان عليه أن يتسلح بحد أدنى من العلم و المعرفة، و ألا يعتمد فقط على صفة "قاض سابق" فإنها لا ترهبنا. ثم كان عليه بعد ذلك أن يلتزم حدود الأدب كما فعل غيره، فليس القاضي بالسباب، و ليس الحقوقي بالقاذف. دعني أقل لك يا من عافانا الله من قضائك، إن نصك المترهل الركيك قد فضح جهلك من حيث زعمت العلم، و كشف عيك من حيث ادعيت البلاغة، و أخرج ضغينتك من حيث تلبست بالفضيلة. فقد طعنت في ذمة شخصين متابعين أمام القضاء، و أصدرت حكمك عليهما قبل إدانتهما، و لم ترقب أبجديات ما تشدقت به من حقوقيات، و طعنت في براءتهما المفترضة، و أعرضت عن مبادئ دستورية لطالما نعقت بها، و صرت تنافح عن سلامة و صحة الإجراءات المنجزة في حقهما و أنت بعيد كل البعد عن الملف، بل و أنت تزعم أنك "فاعل حقوقي"، فهل أدركت الآن لم صرت في حكم "كان"؟ ثم ما الذي تعيبه على المنتدى إذ استعمل عبارات "تهم جنائية"، و "شبهة التلبس بفعل جنائي"، و "بحث جنائي"، و "متابعة جنائية"، و "المحققين"، و غير ذلك مما اتخذته ذريعة لتستعرض علمك؟ ألا تعلم أننا في المغرب نستعمل مادة "جنائي" مقابل Pénal و Criminel؟ و من تم جاءت تلك العبارات مجرد مقابلات للعبارات الفرنسية Accusation pénale – Comportement criminel – Enquête pénale – Enquêteurs – Informateurs. فجهل من الذي افتضح؟ ثم هل تعتقد فعلا أيها الفاعل أن الاختصاص الوطني للفرقة الوطنية للشرطة القضائية يغني عن انتقاد عملها و تقييمه؟ و هل يجيز الترخيص للشرطة القضائية بالوضع تحت الحراسة النظرية مع مجرد إشعار للنيابة العامة في حالة التلبس أن تعمد مصالح الفرقة الوطنية إلى الاحتفاظ بالمشتبه به لمدة سبع ساعات من دون إدراج هذه المدة ضمن فترة الحراسة النظرية؟ و هل يجوز لها تبعا لذلك أن تقوم بالاستماع للأشخاص من دون تمتيعهم بالضمانات الإجرائية الأولية من مثل الإشعار بالحق في الصمت و الإعلام بالتهم الموجهة إليهم؟ و هل يجوز لها أن تفتش و تحجز من دون احترام الضوابط القانونية لذلك؟ كل هذا تحاشيته لمجرد أن القانون أجاز تشكيل فرق ذات اختصاص ترابي موسع! فأي نوع من الحقوقيين أنت؟ لو كنت حقوقيا، لو كنت نزيها كما يفترض فيمن لا يفتأ يذكر الناس بأنه كان قاضيا، لكنت وقفت عند عدم شرعية احتفاظ تعسفي بالمعنيين بالأمر خارج مسطرة الحراسة النظرية لحوالي ثماني ساعات، و لكنت استنكرت المعاملة المهينة التي تلقاها الظنينان؛ لكنك كما اعترفت بذلك لا تقر بأية حماية أو حق لمن كان متابعا في الجرائم! ثم فيم تبجحك بعلمك في شأن شروط التلبس؟ إنك لا تكاد تفقه الفرق بين التلبس الوارد في قانون المسطرة الجنائية بمفهوم إجرائي، حيث تشكل الأحوال المحصية في المادة 56 أسبابا لفتح مسطرة البحث التلبسي، و بين التلبس المذكور في المادة 493 من القانون الجنائي في إطار حصر وسائل الإثبات المقبولة في جريمتي الفساد و الخيانة الزوجية، بحيث لا يقبل المحضر في إثباتهما إلا إذا تضمن معاينة الضابط للظنين حال ممارسة الفعل الجنسي، و ليس على إثر ارتكابه كما ذكرت، و إلا صح أن نثبت الفساد بصياح الجمهور الملاحق للفاعل، أو بضبط المشتبه به حاملا لملابس أو أدوات أو تظهر عليه علامات أو آثار تدل على اقترافه للفعل، أو إذا التمس مالك منزل سبق أن ارتكبت فيه جريمة فساد من ضابط الشرطة القضائية معاينته، و هذا ما لا يقول به غيرك. لكنك لا تعلم، و أنى لك أن تعلم و قد جعلت نفسك شرطيا و ممثل ادعاء و قاضيا و منفذا. أما ما تفوهت به بخصوص تقييد المتابعة بالخيانة الزوجية بشكاية الزوج المتضرر، فلعمري إنه قمة الجهالة، و غاية في ضمور الحس الإنساني. كيف تبرر قيام الشرطة القضائية بالاتصال بالزوج و تبليغه بضبط زوجه أثناء علاقة جنسية، و مساءلته عما إذا كان ينوي متابعته، بأنه إجراء قانوني؟ متى نص القانون على هذا الإجراء، أم هو من محض خيالك؟ عندما يقصر ذهن القاضي أو الفاعل عن إدراك الحكمة من توقيف المشرع متابعة شخص بالخيانة الزوجية على توافر شكاية ضده من زوجه، فلا هو بفاعل و لا هو بحقوقي و لا هو بقاض و لو "سابق". إن غاية صون الأسرة و حمايتها من التشتت التي يرنو إليها القانون لا تتحقق بمنع تحريك الدعوى العمومية فقط، فهذا لا يقول به إلا أبله، بل تتحقق بالستر و عدم فضح أمر الزوج أمام زوجه. و ذلك يقتضي عدم إلقاء القبض على المتلبس بالخيانة الزوجية أو الاحتفاظ به إلا إذا سبق ذلك كله شكاية مقدمة من زوجه. أما تقييد حريته و الاتصال بزوجه و استفساره عن مدى رغبته في المتابعة فهو محض تعسف و ظلم و استهتار بالمقاصد التشريعية. و لقد عرفنا نوابا فضلاء ستروا بعض المخطئين و استقبلوا أزواجهم الذين قدموا إلى مكاتبهم بعدما بلغهم عناصر جهال من الشرطة القضائية، و عرَّضوا لهم بخلاف الحقيقة، فكان الأزواج يعودون إلى منازلهم نادمين تائبين يحمدون الله على حسن العاقبة. و لعل قاضينا يظن، كما يظن غيره، أن حديث المادة 491 عن "المتابعة" يعني أن قرار تحريك الدعوى العمومية فقط هو المعلق على الشكاية، و أن الإجراءات الأولية من إيقاف و حراسة و تفتيش و غير ذلك من أعمال البحث لا غبار عليها سواء قدمت الشكاية أم لم تقدم. و إني أدعوه في ذلك إلى تأمل أمرين: لقد علق المشرع المتابعة على وجود "شكاية". و الشكاية إنما تكون مدخلا لتحريك الأبحاث، تقدم بمبادرة من الضحية أمام مصالح النيابة العامة أو أمام الشرطة القضائية، تنهي إلى علمهم الوقائع و تعرض عليهم مظلمتها. و من تم فالشكاية ليست "تصريحا" تتلقاه الشرطة القضائية، و ليست جوابا على سؤال، بله أن تتجسد الشكاية المقصودة في عبارة "و أصرت على المتابعة" التي تستعمل في محاضر البحث. و عليه، فالشرطة التي تضبط شخصا ما في حالة تبرر إيقافه من أجل الفساد، إذا ثبت لديها زواجه، فإنها في غياب شكاية سابقة ملزمة بأخذ تصريحاته و تسريحه من دون أي تعسف. أما إن هي عمدت إلى استدعاء زوجه و إعلامه بالواقعة و استفساره عن رغبته في المتابعة فإنها بذلك تكون قد هدمت بناء قانونيا كاملا. ثم إننا إذا قبلنا أن المشرع لا يمنع فتح الأبحاث و الاحتفاظ بالأشخاص و غيرها من الإجراءات في غياب الشكاية، حتى لحظة وضع الملف بين يدي وكيل الملك، فإننا سنتهم المشرع بالعبث. فما الحكمة من تحريك أجهزة العدالة و الأمن من أجل مسطرة سوف يكون مآلها الحفظ لعدم وجود الشكاية؟ فأيهما أولى اتهام المشرع بالعبث الواضح، أم نعت صاحبنا بالجهل الفاضح؟ أجدر بالحقوقي أن يستند إلى المقاصد و المبادئ، و يصوب نظره تلقاء مظاهر خرق القانون و التجاوزات التي تهدد كرامة الإنسان و تشتت الأسر، و تسخر مقدرات الأمة و أجهزتها الأمنية و الإدارية و القضائية لتصفية حسابات سياسوية حقيرة. أجدر به أن يتصدى لمحاولات تصفية مبدأ قرينة البراءة و إفراغه من مضمونه، و هدم مبدأ سرية البحث، و أن يطالب بتطبيق المادة 54 من قانون الصحافة التي تجرم نشر وثائق المساطر و الأبحاث و التحقيقات قبل مناقشتها في جلسة عمومية، و أن يستنكر تسريب محاضر الدرك من داخل ملف المحكمة و هي تحمل ختم كتابة النيابة العامة. أولى بالحقوقي أن يجاوز ببصره حدود أنفه، و ينفذ ببصيرته إلى المدى البعيد ليدرك مآلات الأشياء، متساميا على شح نفسه و ضيق صدره و حب ذاته و مصالحه و ولاءاته. فالفعل الحقوقي ليس نيشانا تزين به الصدور، و إنما هو شهادة بالحق و دفاع عن الخلق.
* محمد الباكير : استاذ القانون الجنائي وعضو المكتب التنفيدي لمنتدى الكرامة لحقوق الإنسان