أخرجوه من تحت الأنقاض.. حولّ الركام لونه إلى رماديٍ، يشبه هذه الضبابية التي يعيش فيها منذ أن بدأ يفهم ما حوله.. وضعوه على كرسي سيارة الإسعاف.. جلس.. بهدوء.. بسكون.. بدماءٍ تنزف من جبينه.. بدون دموع.. نظر إليهم جميعاً.. يصوّبون نحوه كاميراتهم.. وسكت.. رفع يده مسح بعض الدماء عن جبينه.. نظر إلى يده. نظر إلى أحمر الدماء. سارع ليمسح يده بالكرسي.. فهو لا ينزف.. ولا يبكي! فقط يصمت.. يجلس بهدوء.. ويصمت.. وكأنّه لم يعد هناك ما يُقال.. ولم يعد هنا ما يُذرف الدمع من أجله.. حتّى النزيف، كان ليفضّله بدون دماء.. يجلس على كرسي الإسعاف وكأّنه يجلس على كرسي قيادة العالم.. وكأنّه سيّدُ أشباه الرجال الذين يقودون الحرب ضدّ طفولته.. يحدّق عبر كاميراتٍ كأنّه ينظر فعلياً في أعينهم.. يفاجئونا أنّه ما زال حيّاً رغم كلّ الدمار.. وينظر إلينا دون عتاب بعد أن تركناه هناك! ليعيش من قلّة الموت، كما يقول والده، رغم أنّ الموت وفيرٌ حوله هم، الذين يصمتون عن المجزرة اليومية التي تقتل أطفالاً وأمهاتٍ وآباء وإخوة، وتقتل معها طفولته كلّ يوم.. هم، الذين يصمتون عن المجزرة اليومية بحججٍ واهية.. يعرّيهم منها بنظرته الباردة.. نظرته الخالية حتّى من القهر، ومن العتاب.. هم، الذين صمتوا عن الحقّ وأسكتوا العدل، ورفعوا في وجه أحلامه وبراءته طيرانهم وأسلحتهم.. ينظر إليهم بدون أي عتاب حتّى.. فقط يحدّق.. لا يبحث حتّى عن إجابات.. فلا شيء يفسّر هذه الغوغائية.. وكلّ هذه الوحشية! وما الذي يمكن أن يفسّر رفض دموعِ طفلٍ من التساقط؟ عن أيّ طفلٍ نحدّثه أصلاً؟ وعن أيّ طفل نبحث في هذه اللحظات بعد أن تركناه هناك طوال كلّ هذه الأعوام يقتات على براءته وعلى ضحكاته وأحلامه؟ يفاجئونا أنّه ما زال حيّاً رغم كلّ الدمار.. وينظر إلينا بدون عتاب بعد أن تركناه هناك! ليعيش من قلّة الموت، كما يقول والده، رغم أنّ الموت وفيرٌ حوله.. لم يفهم يوماً هذا التعبير الذي يبدو كأنّه ينتظر الموت، ولا يراه، وهو هنا يعيش فوق رؤوسهم.. يتربّص بهم.. لذنبٍ هو شخصياً لم يقترفه، لكن من قال إنّ الموت فقط يحلّ على المذنبين!؟ لو لم يسمع بغيره يُقتلون لجزم أنّ الموت لا يحلّ إلا على الأبرياء.. ينظر بدون استفسار.. لا يبكي.. ويُبكينا.. لكنّه لن يتحرّك عن كرسيه ليجفّف لنا دموعنا.. لا داعي للنفاق أكثر.. فلماذا يأسف لذنبنا ونحن لم نأسف لبراءته ولطفولته؟ لماذا يبكي ويمنح قاتليه لذّة الانتصار بقهره؟ وهل هو يعاند أساساً ويقاوم؟ أم فقط يستسلم لعبثية هؤلاء الذين يدّعون أنّهم بشر؟ لم يعد يبحث عن إجابات.. لم يعد يبحث عن مشاعر.. فقط يحدّق في عجزنا نحن، وفي طغيانهم هم.. يمسح دماءه عن جبينه، وينفضها عنه بسرعة. هذا الطفل لا وقت لديه للدماء.. لا وقت لديه للدموع.. ينتظره يومٌ آخر من الحياة في مستنقع الموت.. لكنّه سيحيى، ليحدّق فينا جميعاً حتّى آخر يوم.. ويبكينا بصمته.. ويُبكينا بسكونه..