المكان مطار محمد الخامس الدولي بالدارالبيضاء، الزمان صبيحة يوم الأحد الأخير من شهر رمضان الكريم، الوجهة مطار موسكو شيريميتييفو، المهمة تغطية كأس العالم روسيا 2018 كصحافي رياضي معتمد ومبعوث عن جريدة "المنتخب". طابور طويل في منطقة الركاب لدخول الطائرة، المشهد وكأنه في ملعب وليس مطار، العشرات من الجماهير المغربية بالألوان الحمراء والراية بنجمتها الخضراء، كسروا هدوء وسكون المكان وحوّلوه إلى الجهة الخلفية من المدرجات بالأهازيج والأناشيد، وعبارة "وا هيا روسيا..ها حنا جايين". تفاجأت للمنظر الغريب وشعرت مبكرا أنني في صلب أجواء المونديال، الحماس رهيب والتفاعل شديد من طرف قرابة 70 مشجعا مغربيا يتوجهون إلى روسيا، من مختلف الأعمار، الجنون أصاب زوجين حديثي العهد في الحياة الزوجية، إختارا قضاء شهر العسل بين ضفاف كأس العالم تحت صخب الكرة ومتعة السحر، بعيدا عن العادات الكلاسيكية والسفريات الرومانسية. السفر عبر رحلتين، الأولى من الدارالبيضاء إلى مطار روما لمدة ثلاث ساعات، ثم التوقف لأربع ساعات حيث تغيير الطائرة والتوجه إلى موسكو بعد منتصف الليل بقليل، الكثير من المسافرين المغاربة الشباب لم يسبق لهم أن ركبوا الطائرة أو فكروا فيها يوما، وضعياتهم الإجتماعية ليست ميسورة، لكن يبدو أنهم باعوا أغراضهم وأخذوا القروض وضحوا بالغالي والنفيس لشراء تذكرة مباراة من مباريات الأسود بالمونديال، وبالتالي السماح لهم بدخول أوروبا شرقا عبر البوابة الروسية دون لعنة التأشيرة الحلم. مع الإقلاع من الدارالبيضاء تحدث البعض عن كونه ودع الأهل لفترة غير معلومة، فالهدف الأول ليس متابعة كأس العالم ولا الأسود، وإنما محاولة الهجرة السرية، فالتوقف بمطار روما أغرى البعض لتجريب فرصة سانحة، بينما البعض الآخر فطن لصعوبة المهمة، وإنتظر معرفة الوضع من روسيا وكيفية التسلل إلى بلاروسيا وليتوانيا وبعدها الدول المجاورة ألمانيا وبولونيا. لا حديث بين شبان من مدينة خريبكة من ورائي في المقاعد الخلفية إلا عن "لْحريك"، خصوصا أن الوجهة الأولى هي المعشوقة إيطاليا، الخوف كبير من إمكانية فشل المخطط، والعجز عن عبور الحواجز الأمنية رغم التسلح بالمكر والحيل، والتحلي بلياقة بدنية عالية وسرعة نهائية خرافية. حطت الطائرة في مطار روما مع آذان المغرب بالتوقيت المحلي، من حسن حظ الراغبين في الهجرة السرية والمخططين للمحاولة الأولى أن الطائرة نزلت في مدرج بعيد عن المطار، وبالتالي يجب إنتظار الحافلة للتوجه إليه، ومنه تغيير محطة الإركاب دون إمكانية الخروج طبعا لأولئك الذين لا يتوفرون على فيزا "شينغن". مع الهبوط من الطائرة فإذا بالمفاجأة المدوية للجماهير والمسافرين "لْحراكة"، 4 سيارات أمن تطوق المكان وتضع ممرا ضيقا إلى الحافلة، يمنع كليا الإنفلات منه، الأعين تترقب والقلوب تتوجس، كيف السبيل إلى الفرار، والخلاء حول الطائرة وإمكانية "لْحريك" غير مستبعدة. لكن الشرطة الإيطالية لم تسمح للجمهور حتى بإلتقاط الصور فور النزول، وأمرت بالصعود فورا للحافلة، وبعد الإطمئنان أن لا أحد بقي في الطائرة، فإذا بالحافلة تسير ببطء وفي موكب أمني إلى المطار، وحالة الطوارئ معلنة حتى لا يزيغ البصر عن هؤلاء المغاربة الذين يعبرون مؤقتا البلاد في إتجاه روسيا. وبعد أقل من 10 دقائق وصلت الحافلة المكتظة بالجمهور والمسافرين وبعض المواطنين الإيطاليين، تطويق أمني أشد وشرطة من كل جهة، في الباب ممران، الأول لأصحاب جوازات السفر الأوروبية والثاني للمغاربة، بدأ المكلفون بالأمن بتنظيم الدخول بدقة متناهية، وخوفا من أي إستثناء تم سحب جوازات السفر منهم قبل إعاداتها لهم دقائق معدودات بعدها. المشهد مثير للشفقة وصارم إلى درجة المس بحقوق الإنسان المنصوص عليها دوليا، يُمنع الإقتراب والتحدث مع الشرطة، ويستحيل الذهاب حتى إلى المرحاض، ومسكين حال أحد الشباب الراغبين في الفرار، والذي حاول إقناع أحد الأمنيين الإيطاليين بضرورة التوجه عاجلا لقضاء حاجته، لكن الرجل أجابه ببرودة دم وبلغة إنجليزية: "لن تموت إن لم تذهب، إقضي حاجتك في مكانك." آخرون في صدمة لما وجدوه، فهم تخيلوا كل شيء ووضعوا جميع السيناريوهات إلا هذا الإختناق، ولم ينتظروا معاملة سيئة وشديدة من الأمنيين الإيطاليين الذين قد يتساهلون في كل شيء، إلا محاولة الهجرة السرية. مرت دقائق الحصار سريعة على أولئك المشجعين المهاجرين، والمحاولات الأولى باءت بالفشل، فإستحال الهروب برا من جوانب الطائرة، ومن داخل المطار، ووقت الإركاب للتوجه إلى روسيا حان، تحت مراقبة في أوجها، وبعد الإطمئنان أن كل العابرين في جوف الطائرة الروسية إنتهى حلم "لُحراكة" الأول، والصدمة على وجوه البعض، مع مواساة البعض الآخر ووعود بعدم فقدان الأمل، ومحاولة التجريب من داخل روسيا، حيث التحدي أصعب وأخطر بالتسلل من المدن الشمالية والغربية.