عاشت رباط الفتح فترة ركود علمي في أواخر الدولة السعدية، فلم يبق من تأثير المدرسة التي كان أسسها الإمام عبد الله اليابوري خلال ازدهار الدولة المرينية إلا نُتف تفرقت في شتى أنحاء المغرب، وإذا كانت الحاضرة السلاوية قد احتفظت ببعض بريقها العلمي خلال هذه الفترة؛ فإن الرباط قد اختل بها ثابتُ ارتباط العلم بالعمران، فلم يعد للحركة العلمية والفكرية بها شيء يذكر. ولا يشك في أن المدينة وأن خفت فيها صيت العلم، لم تخلمن قبل من حركة علمية، فقد كان فيها عدة أعلام من المغاربة والأندلسيين كالقاضي أبي المطرف بن عميرة المخزومي في العصر الموحدي، والفقيه عبد الله اليابوري القادم إليها من الأندلس في المائة الثامنة، والعارف العالم أبي العباس أحمد بن عاشر السلاوي، فقد ذكر الفقيه المؤرخ الحضرمي في تاريخه أنه نزل بزاوية شيخه اليابوري بالرباط دهرا طويلا، والأديب ميمون بن خبازة المترجم له في "جذوة الاقتباس" لابن القاضي، لقد انتقلت رباط الفتح من صحة إلى اعتلال، وكانت بحق في حاجة إلى دماء جديدة تعيد لها كرامتها العلمية، وإشعاعها الذي عرفت به منذ قرون.. وقد شاءت قدرة الله أن تقوم الزاوية الدلائية –في قلب جبال الأطلس المتوسط- بدور ريادي في إعادة الحياة العلمية بالرباط إلى مكانتها الطبيعية، وتفسير ذلك أن أحد تلامذة الإمام أبي الحسن اليوسي الذين تربوا في أحضان الزاوية الدلائية أستُقدم إلى عدوتي الرباطوسلا بعد تدمير الزاوية المذكورة من طرف السلطان العلوي المولى إسماعيل في قصة مشهورة، وكان الغرض من استدعاء هذا الرجل الفاضل للعدوتين هو خلق ديناميكية علمية تكون سببا في ازدهار العلم والمعرفة على ضفتي أبي رقراق، وكذلك كان بفضل من الله.. يتعلق الأمر برجل عالم فاضل هو الشيخ الإمام المربي "أبو الحسن علي العكاري" رحمه الله.. هو شيخ الرباط، العكاري نسبا، المراكشي منشأ، الرباطي وفاة ودارا، كان من أكابر العلماء علما وعملا، ونسكا وورعا، يقال أنه أول من أسس العلم بالرباط، وشيد مبانيه، وغرس من أصول الآداب ما تهدلت اليوم أشجاره، وأينعت ثماره، وما مات حتى ترك العلم به قائم الأركان، وقد تكفل بذكر أخباره ومناقبه حفيده أبو الحسن في فهرسة سماها: "البدور الضاوية"، تقع في كراريس خمسة، كما ترجمه أيضا تلميذه أبو يعزى المسطاسي في رسالة ضمنها ذكر مناقبه وسيرته.. "ورقات في أولياء الرباط ومساجده وزواياه لعبد الله الجراري، ص: 33-34". جاء في كتاب الحسن السائح حول "تاريخ الرباط" وفي "موسوعة الرباط" لعبد العزيز بن عبد الله (ج: 2) أن علي العكاري المراكشي الأصل من تلامذة العلامة الأستاذ الحسن اليوسي كما سبق الذكر، ورد على زاوية الدلاء وفاس بعد التحصيل واكتساب المنزلة وهمة أهل العلم، ودرس بها، ثم قدم مدينة سلا لجامعها الأعظم ثم استقر بالرباط من أجل التدريس ونشر العلم، ومن الآخذين عنه بالرباط أبو العباس أحمد الغربي، وأبو العباس أحمد التلمساني، والقاضي محمد مورينو الأندلسي، وأخوه أحمد والحاج محمد الدقاق، ومحمد شعبل الأندلسي، والفقيه أحمد بن عبد الله الغربي، وأحمد والزهراء، والقاضي عبد الله الدرعي، والشيخ أبو العباس الكُراري، وأبو عبد الله الحويشي، وسيدي محمد الدغيمر، ومحمد الحداد الأندلسي، وأخوه أحمد ومحمد بن إبراهيم الزُّبدي الأندلسي والشريف العايدي، وأبو يعزى المسطاسي الذي كان من خاصته، والقاضي محمد مرينو أخذ أيضا عن سيدي أحمد بناصر الدرعي، وله قصائد وموشحات وتلاحين وأزجال جمعت في ديوان خاص تضمنت إشارات صوفية وحقائق وفهوما عرفانية، وساجل الولي الصالح الشيخ المعطي بن صالح فخاطبه في قصيدة يقول فيها: سيدي الصالح الذي يصلح الله به الوفود حالا وشانا قد وفدنا على ضريح جدك فاحضر لتكون لنا شفيعا وعونا فأجابه سيدي بن صالح: مرحبا مرحبا أهلا وسهلا بكم كيف لا وأنتم أجلة ولكم في العلوم باع عريض وسناكم سما سناء الأهلة حاشا شيخ الشيوخ من شاع شرقا ومنار به بغرب أحله أن تؤوبوا وما ظفرتم بخير مذهب عن حجاكم كل علة وقد اعتمد جل مترجمي الإمام العكاري على كتاب حفيده أبي الحسن العكاري "البدور الضاوية في الترجمة العكارية". وتجدر الإشارة أن الرباط في عهد المولى إسماعيل عرفت ازدهار علميا وعمرانيا كبيرا، وهذا يؤكد ما ذهب إليه القادري في "نشر المثاني" من أن المغرب في عهد المولى إسماعيل كثرت عمارته وجدد الناس في أيامه للعلوم عهدا، كما ذكر ابن الحاج في "تاريخه" أن في أيامه كثر العلماء وحفاظ القرآن، وهذه الظاهرة عاصرت عصر الانبعاث للثقافة الأندلسية في الرباط، التي استوت واشتد عودها فتحولت من مرحلة التأسيس إلى مرحلة الإبداع.. بعد استقرار العلامة علي العكاري بالرباط، وتأسيسه لمدرسة علمية أحيت طلب العلم بالمدينة بعد فتور، وتحولت الرباط بذلك إلى نقطة جذب جعلت مختلف الزوايا المغربية تؤسس فروعها بالمدينة، أو تحيي ما اندرس منها.. أما الزاوية العكارية نفسُها فذات فضل كبير في التاريخ العلمي والتربوي لرباط الفتح، ذلك أن مؤسسها العلامة سيدي علي العكاري (ت 1118ه) يعتبر بحق مجدد العلم بالرباط بعد فراغ علمي دام أكثر من قرن، ثم إن عديد الزوايا بالرباط كزاوية عبد الله الحويشي والزاوية التلمسانية، والزاوية الغربية وزاوية أبي العباس أحمد الكُراري، كلها انبثقت عن الزاوية العكارية على اعتبار أن مؤسسّيها تخرجوا من المدرسة العكارية، وترجمة الإمام العكاري وتلاميذه وافية في كتاب حفيده: "البدور الضاوية في الترجمة العكارية"، وفي "الاغتباط" لبوجندار"، و "مجالس الانبساط" لمحمد دينية.. ومن الزوايا ذات الصلة بالمدرسة العكارية، الزاوية التلمسانية التي تقع قرب المسجد الأعظم بسوق السّابَاط (وليس السَّبّاط كما رائج على ألسنة الناس)، وتنسب للفقيه سيدي أحمد التلمساني تلميذ علي العكاري الذي كان يدرّس بها العلم، وكان السادة الكتانيون اتخذوها لمدة من أجل إقامة أورادهم حتى صارت الزاوية تنسب إليهم، وبعدما بنيت زاويتهم بحومة مولاي إبراهيم قرب الزاوية الغربية انتقلوا إليها، وعادت الزاوية التلمسانية لأصلها، وقد قامت برسالة علمية كمدرسة حرة أثناء العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي. والزاوية الغربية نسبة للعلامة سيدي أحمد الغربي تلميذ الإمام علي العكاري -وأستاذ محمد التاودي بنسودة-، تقع قرب ضريح مولاي إبراهيم، وقد تُرجم العلامة الغربي في "الاغتباط بتراجم أعلام الرباط" لمحمد بوجندار و"مجالس الانبساط" لمحمد بن علي دينية (ت 1178ه) ودفن بزاويته المذكورة.. وزاوية سيدي عبد الله الحويشي الرباطي، تلميذ العلامة العكاري، ذكره صاحب "دوحة البستان ونزهة الإخوان في مناقب سيدي علي بن عبد الرحمن" محمد الحسَني المَنالي، وسيدي علي بن عبد الرحمن هذا هو شيخ عبد الله الحويشي في التربية، وزاوية الحويشي قريبة من الزاوية الرحمانية نسبة لعلي بن عبد الرحمن الدرعي المذكور، وربما كان هذا سبب استقرار سيدي عبد الله في المكان الذي بنى به زاويته ليكون قريبا من زاوية شيخه.. ومما لا شك فيه أن الحركة العلمية التي انبثقت في الرباط بعد قدوم الإمام العكاري كان لها تأثير امتد إلى حدود النصف الأول من القرن العشرين، فنحن إذا تتبعنا سلسلة انتقال العلوم بالرباط أدركنا أن ما عرفته الرباط من نبوغ علمي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، يعزى في كثير من جوانبه إلى المدرسة العكارية المباركة، ويخبرنا محمد السائح في كتابه حول الرباط، أنه كان بالرباط من نجوم العلم الزاهرة-. وبعد تجديد الحركة العلمية على يد الإمام العكاري- ما يسجله التاريخ بقلم الفخر كالقاضي الأديب الطيب بسير، والعلامة الأديب الشهير وقاضي العُدوتين والسيد أحمد الحكمي، والقاضي عمر بن العروسي، والشريف سيدي أحمد الرفاعي صاحب "القلم الأعلى" و"المنظومة" و"شرحها في علم الخط"، والقاضي أبي عبد الله محمد ابن أحمد الغربي وأبي القاسم السجلماسي صاحب "العمل الرباطي" و"شارح العمل الفاسي"، والقاضي محمد عاشور المتوفى بمراكش قاضيا بها، والهاشمي بن محمد بن عبد الله شْكلا نط صاحب منهاج التوضيح لمسائل صلاة التسبيح، والقاضي سيدي عبد الرحمان السرايري وغيرهم.. وقبلهم تلميذ المدرسة العكارية المحدث المسند الشيخ سيدي أحمد بن عبد الله الغربي شيخ علماء فاس والشيخ التاودي بن سودة، وفخر مكناسة القاضي العميري، ومسند سوس وروايته أبو عبد الله الحضيكي الشهير وغيرهم من الأكابر الذين يطول استقصاء حديثهم، ومن تلاميذ أحمد الغربي –تلميذ العكاري-العلامة القاضي عبد العزيز بن محمد بن العباس المطاعي، قاضي الجماعة بمدينة مراكش، اتصل بالشيخ مرتضى الزبيدي، وكان الشيخ محمد بن عبد السلام الناصري صاحب الرحلة يثني عليه كثيرا، وينعته بالعلم والعمل والصلاح.. ونستفيد من العلامة الحسن السائح في كتابه حول رباط الفتح أن أبرز ما عرفه الرباط في العصور المتأخرة عبقرية الشاعر بسير الأندلسي، والعلامة أبي إسحاق التادلي –وهو وارث التجديد العلمي بعد تلاميذ الإمام العكاري- وقد كان دائرة معارف كبرى وسفيرا، وأخذ عنه كثير من العلماء المغاربة، ومشايخ العلم في المغرب منهم العلامة أحمد بن علي دنية من الآخذين عن الفقيه ابن عبد الرحمان السجلماسي وسيدي عبد القادر الكوهن، وتخرج عليه من أهل الرباط الفقهاء السيد التهامي بناني، وأبو حفص عمر عاشور والمعطي الغربي (ت 1282ه)، والعلامة الكبير الشيخ أبي بكر بن محمد البناني صاحب "مدارج السلوك إلى ملك الملوك"، و "بغية السالك"، و "شرح الحكم المسمى بالغيث المنسجم"، و"الفتوحات القدسية في شرح القصيدة النقشبندية"، و"الفتوحات الغيبية في شرح الصلاة المشيشية"، و "بلوغ الأمنية في شرح حديث أنما الأعمال بالنية".. إلى غيرها مما ذكره العلامة محمد بوجندار في الاغتباط بتراجم علماء الرباط، (ت 1284ه)، والعلامة القاضي عبد الرحمان بن أحمد البريبري، (ت 1293ه) وسيدي البدوي السرايري العلامة المدرس الخطيب (ت 1295ه)، والقاضي سيدي أحمد بن عبد السلام مُلين من الآخذين عنه القاضي أبو حامد البطاوري، وأبو العباس أحمد بن قاسم جسوس، والقاضي سيدي الجيلاني بن إبراهيم (ت 1297ه)، وأبو المواهب الشيخ سيدي العربي بن السايح الشرقي العلامة المشارك في سائر الفنون لاسيما الحديث، (ت 1309ه)، والعلامة الكبير المفتي الشهير سيدي الحاج محمد عاشور، (ت 1341ه)، وغيرهم ممن يعلم بالإطلاع على كتاب الاغتباط لمحمد بوجندار.. والحاصل أن انتظام العمران في مدينة الرباط، ومدن مغربية أخرى تحقق مجاليا في أهم جوانبه بفعل التواصل العلمي والتربوي الذي تحقق بين علماء كبار وتلاميذهم، الذين انتشروا بدورهم في المجال وأسسوا مدارس أخرى وزوايا تحولت بدورها إلى مراكز جذب، ذلك أن سلسلة انتقال العلم المتواصلة هذه منعكسة أفقيا في انتظام العمران المغربي، ومشكلة أسّه وأساسه.. إن تفكيكا عميقا لبنية عمران المدينة يجعلنا نقف على حقائق مجالية تؤكد مرة أخرى أن انتقال العلم بالمغرب شكل أساس ازدهار العمران.. ومثال العلامة أبي الحسن علي العكّاري، وتلاميذه يجسد بعمق كيف أن انتقال العلم ينعش العمران، ويؤثث المجال وينمي الاجتماع الإنساني.. استوطن الإمام علي العكاري (ت 1118ه) مدينة الرباط في عهد السلطان العلوي المولى إسماعيل، وسرعان ما اجتمع حوله التلاميذ الذين أسسوا بدورهم زوايا علمية وتربوية توزعت على مجال الرباط وفق منطق جعل بنية الرباط ترتبط وجوديا بهذه الحركة العلمية التي ترعرعت فوق ترابها، وأخبار العلامة العكاري، وافية في كتاب حفيده "البدور الضاوية في الترجمة العكارية".. وتلاميذ الإمام العكّاري المشاهير على رأسهم الإمام أحمد الغربي –أستاذ العلامة الشهير التاودي بنسودة- والإمام عبد الله الحويشي الموجود ضريحه بحومة مولاي عبد الله، والإمام أبي العباس أحمد الكُراري الذي تنسب إليه اليوم زنقة سيدي بلعباس، لا يمكن تصور البنية التكوينية لمدينة الرباط بدون وجود هذه الديناميكية العلمية التي كانوا أبطالها، وقد أفاض العلامة محمد بوجندار الرباطي في التعريف بهؤلاء الرواد في كتابه "الاغتباط بتراجم أعلام الرباط". وهذا مبحث نبيل من شأنه أن يجلي الغبار عن ثابت أساسي في العمران المغربي، وهو انصهار الحركة العلمية والحركة العمرانية في بوثقة واحدة بشكل جدلي، إلى حد اعتبار التاريخ العلمي والتربوي لهذا البلد الكريم، بمثابة المكون الجوهري لكياننا ووجداننا، وإن تغييب هذا المعطى المفصلي، مؤداه التيه والغياب عن مجال التأثير في العالم.. توفي الإمام علي العكاري صبيحة يوم الأحد 11 شوال عام 1118ه، ودفن بروضة سيدي الحسن ابن سعيد افران، ثم نقل بعد ثمانية أيام ودفن بدويرته المتصلة بداره من الرباط بزقاق يحمل اسمه بشارع السويقة، وضربت عليه بعد ذلك قبة مدحت بأبيات ومقطعات من أدباء الوقت في عام (1140ه).. وحضر لجنازته أهل العدوتين وشالة والقصبة وغيرهم، رحم الله الإمام علي العكاري وجازاه عن الرباط والمغرب والإنسانية خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه..