التصوف على "طريقة الجنيد السالك" حَسب ما سُطِّر في منظومة فقيه القرويين ابن عاشر، ووِفق ما تَوارث في الأمة، يتقعّد على ثمانية شروط ومبادئ المبدأ الثالث في طريق التصوف: صحبة الشيخ العارف بالله (4) ومفهوم قول الناظم: "شيخا عارف المسالك"، أن من ليس كذلك، لا تطلب صحبته، بل تجب مجانبته، وهجرته لسريان دائه للصاحب، ومشاركته له في سوء العواقب، فالصاحب يكون منك إما كحامل المسك وإما كنافخ الكير، قال صاحب الحِكم العطائية: "لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله"، ومفهومه عند الشيخ زروق هو: "اصحب من ينهضك حاله، ويدلك على الله مقاله، وهو العارف الذي قد صَحّ تعلُّقه بربه في جميع أحواله، فلم يعرج على غيره، ولم يلتفت لسواه، ولم يدل إلا عليه، فهذا وإن كان علمه أقل، فحاله أكبر وأجل"[1]. ثُم قال في لطائف المنن: "ليس شيخك من سمعت منه إنما شيخك من أخذت عنه، وليس شيخك من واجهتك عبارته إنما شيخك الذي سرت فيك إشارته، وليس شيخك من دعاك إلى الباب إنما شيخك من رفع بينك وبينه الحجاب، وليس شيخك من واجهك مقاله إنما شيخك الذي نهض بك حاله، شيخك هو الذي أخرجك من سجن الهوى ودخل بك على المولى، شيخك هو الذي ما زال يجلي مرآة قلبك حتى تجلت فيها أنوار ربك، نهض بك إلى الله فنهضت إليه، وسار بك حتى وصلت إليه، ولا زال محاذيا لك حتى ألقاك بين يديه، فزج بك في نور الحضرة وقال ها أنت وربك"[2]. وأشار بقوله: "يقيه في طريقه المهالك"، إلى أن من شأن الشيخ، لكونه عارفا بطريق السلوك، أن يحمي المريد من كل ما يمنعه الوصول إلى الله تعالى من أنواع الجهل والغرور، ودواعي الهوى الموقعة في ظلمة القلب، وإطفاء نوره؛ فالعيوب حاجبة للعبد عن الله تعالى، ولا يمكنه تحقيق عيوب نفسه من نفسه بنفسه، بل لا بد له في ذلك من صحبة شيخ ناصح يطلعه عليها ويعالجه، وهؤلاء هم ورثة الرسل علما وعملا، ينتفع بهم الناس ويهتدي بهم الحيران؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما رواه الشيخان: "إِنَّ مثل مَا بَعَثَنِي اللَّهُ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِيبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فشَرِبُوا مِنْهَا، وَسَقَوْا وَزَرَعُوا.."[3]. وأشار بقوله: "يذكره الله إذا رآه" إلى أن من فوائد صحبة الشيخ العارف بالله الاستعانة به على ذكر الله؛ فإن النظر إليه سبب في ذكر الله تعالى، ففي الحديث قيل: "يا رسول الله، من أولياء الله؟ قال: الذين إذا رؤوا ذكر الله تعالى"[4]، وعن ابن عباس: "قيل يا رسول الله من نُجالس، أو قال: أي جُلسائنا خير؟ قال: من ذَكَّركُم الله رؤيتُه، وزاد في علمكم منطقُه، وذَكَّركُم الآخرة عملُه"[5]. وسبب ذلك، أن عليهم من الله سمات ظاهرة، قد علاهم بهاء القرب، ونور الجلال، وهيبة الكبرياء، وأنس الوقار، فإذا نظر الناظر إليهم ذكر الله، لما يرى من آيات الملكوت عليهم؛ فإن القلب معدن هذه الأنوار ومستقرها. قال في الحكم: "ما استودع في غيب السرائر، ظهر في شهادة الظاهر"؛ فكل إناء بالذي فيه يرشح، وما خامر القلوب، فعلى الوجوه أثره يلوح، قال الله تعالى: "سِيمَاهُم في وُجُوهِهِمْ مِنْ اَثَرِ السُّجُود" [الفتح، 29]، فرؤيته تنهض الحال وتذكر بالله؛ لأن أقواله وأفعاله وأحواله كلها ذكر لله تعالى؛ قال الحق عز وجل في الحديث القدسي: "كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ التي يَبْطِشُ بها، وَرِجْلَهُ التي يَمْشِي بها"[6]. وأشار بقوله: «ويوصل العبد إلى مولاه» إلى أن من فوائد الصحبة، وملاقاة الشيخ العارف بالله: الوصول إلى الله وإلى العلم الحقيقي به عز وجل، وهو غاية السالكين، ومنتهى سير السائرين، وهو المقصود من الصحبة؛ قال في الحكم العطائية: "وصولك إلى الله، وصولك إلى العلم به، وإلا فجَلَّ ربنا أن يتصل به شيء، أو يتصل بشيء". فهمة الشيخ وقوة أحواله تكسب المريد قوة في أعماله، ونورانية في أحواله بقوة تمكينه؛ قال ابن عطاء الله في تاج العروس: "كما أن للدنيا أبناء من استند إليهم كفوه، كذلك للآخرة أبناء من استند إليهم أغنوه"[7]. يتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى.. ---------------------------------- 1. شرح الحكم العطائية لأحمد زروق، ص: 67. 2. لطائف المنن، ابن عطاء الله السكندري، ص: 48. 3. صحيح البخاري، ح: 79، صحيح مسلم، ح: 2284. 4. الحلية، أبو نعيم "7/271". 5. رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح كما في "مجمع الزوائد" دار الفكر، بيروت، 1412ه، "10/389". 6. صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع "4/217". 7. تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس، ابن عطاء الله السكندري، ص: 23.