1- التزكية والتربية د. تكوين فرد صالح مُصلح داخل مجتمعه ومن آثار التربية والتزكية كذلك، تحبيب الله إلى عباده، وتحبيب العباد إلى الله، حيث يقوم شيوخ التربية بزرع بذور المحبة والأنس في قلب المريد، عن طريق تهذيب نفسه بفضل صحبة شيخه الذي يرشده إلى أسهل مسالك المحبة والتعلق بالله، يقول السهروردي موضحا هذا الأمر: "فأما وجه كون الشيخ يحبب الله إلى عباده، فلأن الشيخ يسلك بالمريد طريق الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن صح اقتداؤه واتباعه أحبه الله تعالى، قال الله تعالى: "قُلْ اِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ" [آل عمران،31]. ووجه كونه يحبب عباد الله تعالى إليه: أنه يسلك بالمريد طريق التزكية، وإذا تزكت النفس انجلت مرآة القلب، وانعكست فيه أنوار العظمة الإلهية ولاح فيه جمال التوحيد.. فأحب العبد ربه لا محالة، وذلك ميراث التزكية، قال الله تعالى: "قَدْ اَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا" [الشمس، 9]،.. فتظهر فائدة التزكية وجدوى المشيخة والتربية"[1]. من هنا نجد أن الصوفية تخرَّج من مدرستهم فحول الرجال، هامَّة هَمِّهم التعلق بالله، وعدم الالتفات عنه في حركاتهم وسكناتهم، فقلوبهم معمورة بجلاله وأنوار هيبته، أسهروا ليلهم في مرضاته ومناجاته، وقاموا على بساط العبودية والتذلل لحضرته، كما أنهم أسود بالنهار لا يُشق لهم غبار في خدمة عيال الله؛ لأنه مقتضى حقوق العبودية الخالصة. وقد استوقفتني قصة ثري صوفي مغربي لم يمنعه ثراؤه الضخم العريض أن يكون تعلقه الكبير هو الله سبحانه؛ لأن قلبه يجول في الملكوت وجسده مغمور وسط النعيم، هذه القصة أوردها ابن عطاء الله السكندري في كتابه: "لطائف المنن"، يقول ابن عطاء الله: "وقال بعض المشايخ: كان بالمغرب رجل من الزاهدين في الدنيا، ومن أهل الجد والاجتهاد، وكان عيشه مما يصيده من البحر، وكان الذي يصيده يتصدق ببعضه ويتقوت ببعضه، فأراد أحد أصحاب هذا الشيخ أن يسافر إلى بلد من بلاد المغرب، فقال له الشيخ: إذا ذهبت إلى بلد كذا وكذا، فاذهب إلى أخي فلان، فأقرئه مني السلام واطلب الدعاء منه لي؛ فإنه من أولياء الله تعالى. قال: فسافرت حتى قدمت إلى تلك البلدة، فسألت عن ذلك الرجل فدُللت على دار لا تصلح إلا للملوك، فتعجبت من ذلك وطلبته فقيل لي هو عند السلطان، فازداد تعجبي، فبعد ساعة، وإذا هو قد أقبل في أفخر ملبس ومركب، وكأنما هو ملك في موكبه. قال: فازداد تعجبي أكثر من الأول. قال: فهممت بالرجوع وعدم الاجتماع به، ثم قلت: لا يمكنني مخالفة الشيخ، فاستأذنت فأذن لي، فلما دخلت رأيت ما هالني من العبيد والخدم والشارة الحسنة، فقلت له: أخوك فلان يسلم عليك. قال: جئت من عنده؟ قلت نعم. قال: فإذا رجعت إليه، فقل له: إلى كم اشتغالك بالدنيا؟ وإلى كم إقبالك عليها؟ وإلى متى لا تنقطع رغبتك فيها؟ فقلت: هذا والله أعجب من الأول. فلما رجعت إلى الشيخ قال: اجتمعت بأخي فلان؟ قلت: نعم. قال: فما الذي قال لك؟ قلت: لا شيء. قال: لا بد أن تقول لي. فأعدت عليه ما قال، فبكى طويلا، وقال: صدق أخي فلان، هو غسل الله قلبه من الدنيا وجعلها في يده، وعلى ظاهره، وأنا أخذها من يدي وعندي إليها بقايا التطلع"[2]. هكذا هم الصوفية، الدنيا إنما تكون في أيديهم، وليس في قلوبهم، فهي لا تستعبدهم، فلا يلقون بقيادهم إلا لله سبحانه وتعالى، يعاشرون الخلق بالمعروف؛ لأنهم عيال الله، وخير الناس أنفعهم لعيال الله.. يتبع.. ---------------------------------------------- 1. عوارف المعارف، السهروردي ص: 95، دار الفكر دار الكتب العلمية بيروت لبنان، ط 1/ 1406ه - 1986م، ملحق بكتاب إحياء علوم الدين للغزالي، ج: 5. 2. لطائف المنن، ص: 153.