يقول عز وجل في محكم كتابه العزيز: "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُوتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ" [اَل عمران، 26-27]. الآيتان دعاء يتضرع من خلاله المؤمن إلى الله تعالى، وهو يعتقد اعتقادا راسخا بأنه سبحانه هو القيوم الذي يدبر أمور الكون ويتصرف في أمور الخلائق. والمؤمن إذ يعتقد بهذه الحقيقة الكبرى التي عبر عنها الأستاذ سيد قطب رحمه الله ب: "حقيقة الألوهية الواحدة القوامة في الكون والناس"[1]. يجتهد من جهة في فهم وكشف سننها الكونية والإنسانية، ويجهد نفسه من جهة ثانية في إعمالها وتوظيفها. وقبل أن نستنبط المعاني المقصودة من الآيتين يحسن بنا أن نضعهما في سياق المقام اللتان وردتا في إطاره. المقام الذي سيقت في إطاره الآيتان سيقت الآيتان في مقام جدلي بقدر ما يتضمن التعريض ينطوي على الاعتراض. التعريض بفريق من أهل الكتاب لأنهم أعرضوا عن الاحتكام إلى القرآن المجيد، وكابروا واغتروا حتى ظنوا أن الله تعالى اختصهم بالفضل دون غيرهم من البشر. والاعتراض عليهم؛ لأنهم أساؤوا فهم منشأ الملك، والعز، والصولة، والرزق، إن منشأه الاستحقاق، إذ غفلوا وتغافلوا أن كل امرئ فاقد الأهلية يجب إبعاده عن تولي المناصب والصعود إلى المواقع[2]. ويمكن التمييز في مقام الآيتين بين ما هو من قبيل المقام المقالي وبين ما هو من قبيل المقام الحالي. ففي المقام المقالي نلاحظ أن الآيتان سيقت في مقام قص الله تعالى من خلاله ما عليه فريق من أهل الكتاب من إعراض عن القرآن المجيد ومن مكابرة، ومن غرور. يبدو هذا في الآيات السابقة واللاحقة عليها. ففي الآيات السابقة عليها نقرأ قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ هم ذَلِكَ بأنهمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ" [آل عمران، 23-25]. ولهذا إن المطلوب من المؤمنين إزاء مواقف الإعراض والمكابرة والغرور عدم موالاة أصحابها. وهو ما نقرأه في الآيات اللاحقة في قوله تعالى: "لَا يَتَّخِذِ الْمُومِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُومِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ اِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ" [اَل عمران، 28]. ويستمد المقام الحالي للآيتين من روايات متعددة ينقلها أهل التفسير، منها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم فقال: "المنافقون واليهود: هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم، وهو أعز وامنع من ذلك فنزلت هذه الآية: "قل الله مالك الملك.."[3]. يتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى.. --------------------------------- 1. سيد قطب، في ظلال القرآن مجلد 1، ص: 384. 2. وفي هذا سبق للشيح محمد الغزالي رحمه الله أن نبه فقال: "صار اليهود آخر تاريخهم عاجزين تمام العجز عن الارتفاع إلى مستوى الوحي، فقلوبهم حجارة، وأخلاقهم مذالة، وأثرتهم طافحة.. وهذا سر قوله تعالى: "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُوتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ" [ال عمران، 26-27]. محمد الغزالي، نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، القاهرة، دار الشروق، الطبعة العاشرة، 2008م، ص: 29. 3. الرازي فحر الدين، التفسير الكبير ج: 8، ص: 4-5، وأيضا عزة دروزة، التفسير الحديث، ج: 7، ص: 134.