قال الله العظيم في محكم التنزيل: "فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَٰئِكَ الَذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُم" [محمد، 24]. وقال جل شأنه: "وَالَذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الاَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ" [الرعد، 26]. ذكرت الآية نتيجتين حتميتين للتحلل من الدين والتولّي عنه: الأولى: ظهور الفساد في الأرض، وهو تعبير قرآني جامع للدلالة على انخرام نظام العالم واختلال القيم الضرورية الكلية الموجهة لسلوك الإنسان والمجتمع والبيئة من حولهما. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل حتى يكثر فيكم المال فيفيض[1]؛ والثانية: قطع الرحم؛ وقطع الرحم هو الرغبة في الانسحاب من التزامات المجموعة التي ننتمي إليها نسبا وقرابة، والتحلل من الواجب الأخلاقي والمعنوي تجاهها. وقطع الرحم بهذا المعنى هو المقدمة لتفكيك عرى المجتمع، وتمزيق نسيجه، وتقليص ظله، وإضعاف سلطانه؛ بمعنى أن تضعف صلة الفرد بأهله وعائلته وعشيرته، وأن تعيش كل أسرة على حدة حياة انفرادية دون مبالاة أو اكتراث بالآخرين.. أن يعيش الإنسان وحده، وأن يأكل وحده، وأن يستمتع وحده، وأن يمضي في أموره وحده، وأن يموت وحده مثل ما نشاهده اليوم في واقعنا الجديد من صور قاتمة للتمزق الاجتماعي، والتفكك العائلي، وتصدع الأسرة، واهتزاز بنية القيم الجماعية التي كانت من قبل سرّ توادّنا وتراحمنا وتماسكنا واستقرارنا.. يقول الله تعالى: "فهل عسيتم" -إن تنكرتم لدينكم إلا أن تفسدوا في الأرض، وتقطعوا أرحامكم، وتفرقوا شملكم-، "أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم".. وليس بعد هذا الوعيد الشديد وعيد، ومع ذلك نرى كثيرا من الناس يسارع إلى قطع رحمه وصلته، إما بوالديه وإما بإخوانه، أو أخواته، أو أعمامه، أو أخواله، أو أقاربه، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: مَهْ، فَقَالَتْ: هَذَا مَكَانُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَك، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَذَاكَ لَكِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" [محمد، 22-24][2]، وهذا تصوير بليغ لرضا الله تعالى ورضائه على من وصل رحمه، وسخطه على من قطع رحمه، "لا يدخل الجنة قاطع رحم"[3]، ".. من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه"[4]، إذ لا خلاف بين العلماء أن قطع الرحم من أكبر الكبائر وأشنع المعاصي إلى درجة أن الله تعالى جعل اتقاء الرحم والحذر من قطعها رديفا أو قسيما لاتقائه تعالى وداخلا معه في المفهوم والمآل فقال: "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالاَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" [النساء، 1]، وقال: "إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالاِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" [النحل، 90]، وهذا يدل على أن صلة الرحم من أعظم عزائم الدين، وفرائض الشرع، وأجل الطاعات، والالتزام بمقتضى الأمر. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونيَ، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ. قَالَ: "لَئِنْ كُنْتَ كَمَا تَقُولُ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ، مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ"[5]، يعني كأنما تطعمهم النار.. "المل" هو الرماد الحار، وهو تشبيه لما يلحقهم من الإثم العظيم بسبب إعراضهم وتكبرهم وإيذائهم له، فهذا جزاء القاطع الذي يقطع ما أمر الله به أن يوصل. أما جزاء الواصل فهو كما قال عليه الصلاة والسلام: في الحديث الذي رواه أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"[6]، أي فليحسن إليه بالمال أو الخدمة أو العيادة أو الزيارة وغير ذلك من أنواع البر والصلة مع كل من تربطهم بك قرابة رحم من جهتي الأب والأم، كالإخوة، والأخوات، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات وفروع كل منهم. فمن أحب البركة في عمره، والذكر الجميل بعد مماته، وطول العمر في الخير، والبركة والزيادة في نفسه وماله ورزقه فليصل رحمه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر"[7]، وقوله عز وجل:"فَأَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [الروم، 37]. وعن أبي أيوب الأنصاري، أن رجلاً قال للنبي: أخبرني بعمل يُدخلني الجنة. فقال النبي: "تعبد الله، ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم"[8]، وقد سئل بعض العلماء عن قوله سبحانه: "يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ" [الرعد، 40]، قال هي الصدقة على وجهها، وبرالوالدين، واصطناع المعروف، وصلة الرحم؛ تحول الشقاء إلى السعادة، وتزيد في العمر، وتقي مصارع السوء. واذكروا أيها الأفاضل أن صلة الرحم من أقرب الوسائل الموصلة إلى رضى الله تعالى، فمن وصل رحمه وصله الله، ومن قطع رحمه قطعه الله كما ورد في كثير من الآثار. واختم هذا الحديث بقصة امرأة عظيمة ابتلاها الله بظلم الحجاج، فاعتقل زوجها وولدها وأخاها، فقال لها: اختاري واحدا منهم ليبقى حيا، قضي الأمر، فتحيرت المرأة إزاء هذا الامتحان العسير، وهذا الاختيار الصعب، ثم قالت: الزوج موجود، والابن مولود، والأخ مفقود تعني أن الزوج والابن لو قتلتهم سيخلفهم الله، ولكن الأخ لو قتل لا يخلف، فتأثر الحجاج لكلامها وحكمتها، وقال: قد عفوت عنهم جميعا، فيا أيها الإخوة، الله الله في أرحامكم، جددوا صِلاتكم العائلية، واخرجوا من دواعي الأهواء والأنانيات الهابطة والحسابات الضيقة؛ فإنها والله لن تغني عنكم من الله شيئا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللهبقلب سليم، سليم منالشك والشرك، وسليم من الحقد والشنآن، والكراهية والبغضاء. اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، واسلل سخائم صدورنا، اللهم اجمع شملنا، والمم شعثنا، واجبر كسرنا، وأقل عثرتنا، واغفر ذنوبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم اغسل جميع جميعنا بماء كرمك من قبيح أفعالنا، وخذ بأيدينا إليك أخذك بأيدي الكرام عليك، اللهم بحرمة الإسلام، وشرف الإسلام، وكرامة الإسلام حل بيننا وبين أن نؤذي أو نسيء أو نضر أحدا ممن دخل في حرمة الإسلام، اللهم سلم منا كل شيء، ولا تلحق ضررنا بمسلم يشهد ألا إله إلا الله يخاصمنا بها عندك. اللهم بجلالك ونور وجهك أعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا توثر علينا، اللهم لا تجعلنا ممن يقول ولا يفعل، وقد كبر ذلك عندك مقتا، واجعلنا من الذين إلى فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم.. آمين والسلام. ------------------------------------- 1. صحيح البخاري، كتاب الاستسقاء، باب ما قيل في الزلازل والآيات، حديث رقم: 989. 2. شعب الإيمان للبيهقي، حديث رقم: 7443. 3. الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي،حديث رقم: 3319. 4. أخرجه البخاري في صحيحه، ج: 10، ص:2445. 5. مسند أحمد بن حنبل، مُسْنَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، بَاقِي مُسْنَد المُكْثِرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، حديث رقم: 7795. 6. صحيح البخاري، ح: "2067" ومسلم في صحيحه، ح: "2557" وابن حبان في صحيحه، ح: "438-439". 7. صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، حديث رقم: 2556. 8. صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب فضل صلة الرحم، حديث رقم: 5637.