التصوف على "طريقة الجنيد السالك" حَسب ما سُطِّر في منظومة فقيه القرويين ابن عاشر، ووِفق ما تَوارث في الأمة، يتقعّد على ثمانية شروط ومبادئ: المبدأ الثاني في طريق التصوف: التقوى: من المعلوم أن القلب هو الأصل في عمل الجوارح، لكن قد يحصل له الفساد بسبب فساد الفروع، وذلك لاستمداده منها، ومن ثمّ كان كفها عن المنهيات واجبا، لذلك وبعد أن فصّل الناظم الحديث عن تقوى الظاهر المتعلق بأعمال الجوارح اجتنابا وامتثالا، انتقل إلى الحديث عن تقوى الباطن، فقال: يُطهِّرُ الْقَلْبَ منَ الرِّيَاءِ وَحَسَدِ ِعُجْبِ وَكُلِّ دَاءِ ورد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأشار بأصابعه إلى صدره"[1]، ويفهم من الحديث أن رب العالمين ينظر إلى قلب الإنسان ويجري معاملاته معه وِفق قلبه، ومن ثَم فمناهي الظاهر التي قدمها الناظم إنما هي فروع مناهي الباطن، وإنما قدم الفروع على أصولها؛ لأنها أول ما يظهر من العبد، وهي كالدليل على فساد الباطن. إن الأصل في السلوك الصحيح والقويم هو صحة القلب وسلامته، فإذا تمكنت التقوى من القلب، انقادت الجوارح وأطاعت؛ لأن التقوى ملَكَة في القلب ينبثق عنها سلوك قويم على ضوء الكتاب والسنة. ومن ثمّ جاءت إشارة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ثلاثاً: "التقوى ههنا" ويُشير إلى صدره[2]، لتأكد هذا الأصل، كما يتأكد كذلك من خلال حديث البخاري الذي يقول فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"[3]. فالقلب إذن هو الأصل في عمل الجوارح وفي فقه السير والسلوك، لذلك انصب جهد الصوفية في المقام الأول على إصلاح الباطن وتحرير القلب من آفات النفس وعيوبها. وصلاح القلب، إنما يكون بطهارته عن الصفات الذميمة دقيقها وجليها، وهي صفات وأوصاف بشرية مناقضة للعبودية كالنفاق والفسوق، والقسوة، والكبر، والعجب والسمعة، والحقد والحسد وحب الرئاسة، والعداوة والبغضاء والغلظة، والشح والبخل وطول الأمل، والغل والغش والمباهاة، والتصنع والغفلة والانتصار للنفس.. قال ابن عطاء الله السكندري في حِكمه: "أصل كل معصية وغفلة وشهوة: الرضا عن النفس. وأصل كل طاعة ويقظة وعفة: عدم الرضا منك عنها؛ ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه، فأي علم لعالمٍ يرضى عن نفسه، وأي جهلٍ لجاهل لا يرضى عن نفسه"[4]. ومن ثمّ تكمن أهمية التصوف في عمله الإصلاحي الذي ينطلق من العمق، عن طريق تغيير الصفات الباطنية، من ذميم الأخلاق إلى أحسنها؛ فمنهج أهل التربية في تحقيق هذا المقصد، هو العمل على تطهير القلب ومجاهدة النفس وتحليتها بفضائل الأعمال، وإرغامها على الخروج عن عاداتها السيئة، إلى العمل وفق ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام. لذلك أشار المصنف رحمه الله إلى مناهي الباطن، من رياء وحسد وعجب وكلِّ داء، بقوله: يُطهِّرُ الْقَلْبَ منَ الرِّيَاءِ وَحَسَدٍ عُجْبٍ وَكُلِّ دَاءِ. فأما الرياء: فهو تعلقٌ بالخلق وإعراضٌ عن الخالق، قال تعالى: "يُرَاؤونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً" [النساء، 141]، وقال: "لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالاَذَى كَالذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ" [البقرة، 263]. وقال صلى الله عليه وسلم: "أول من تُسعَّر بهم نار جهنم يوم القيامة المرائي بعلمه والمرائي بماله والمرائي بجهاده"[5]، وسمَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم "الرياء" بالشرك الأصغر. فقال: "الرياء الشرك الأصغر"[6]، وقال: "الشرك في أمتي أخفى من ذبيب النمل على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء"[7]؛ لذلك قال ابن عطاء الله: "ربما دخل الرياء عليك حيث لا ينظر الخلق إليك"[8]. ومن عظيم خطورته أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تخوفت على أمتي الشرك، أما إنهم لا يعبدون صنما ولا وثنا ولا شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولكنهم يراءون بأعمالهم"[9]. ولا يسلم من الرياء الخفي والجلي إلا من طهُر قلبه وأشرقت فيه أنوار اليقين والمعرفة، فلا يبقى للغير فيه نصيب، قال الشيخ أبو العباس الرفاعي: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب وأما الحسد: فهو إرادة زوال نعمة الله التي على المحسود، وأما إن أردت أن يكون لك مثله فهو الغبطة، قال تعالى: "اَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا ءَاتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ" [النساء، 53]، وفي الحديث: "إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"[10]، وقال عليه الصلاة والسلام: "لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا"[11]. والحسد هو أول خطيئة وقعت على الأرض، حسد قابيل أخاه هابيل فقتله. وأما العجب: فهو استعظام النفس وخصالها والركون إليها، قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ مهلكات: شحُّ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه"[12]. فهو داء القلب العضال، بل هو شر معاصيه، قال عليه الصلاة والسلام: "لو لم تذنبوا لخشيت عليكم أكبر من ذلك: العجب العجب"[13]، فجعل العجب أكبر من الذنب؛ لأن صاحب العجب ناظر إلى نفسه غائب عن ربه، مستعظم لطاعته وعبادته، وأما صاحب الذنب، فقد يورثه ذنبه الخوف واللجوء إلى الله تعالى والفرار إليه عن نفسه؛ قال صاحب الحِكم: "رُبّ معصية أورثت ذُلاًّ وافتقارا خيرٌ من طاعة أورثت عِزّاً واستكباراً"[14]؛ لأن المقصود من الطاعة هو الخضوع والخشوع والانقياد والتذلل والانكسار، وليس العُجب والرياء والاستكبار. وأشار الناظم بقوله: «وكل داء» إلى أن الأمراض القلبية غير منحصرة فيما ذكره، بل هي كثيرة ومتشعبة، ولا تحصل التقوى إلا بتطهير القلب من جميعها. يتبع.. --------------------------------------------------------------- 1. صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله، (4/1987)، ح 2564. 2. مسلم بشرح النووي"، كتاب البر والصلة، دار الحديث، القاهرة، 2005م، 8/363. 3. صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، دار الحديث، القاهرة، طبعة 2004م، 1/22، (ح 52). 4. إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ابن عطاء الله السكندري، دار المعرفة، ص: 25. 5. سنن الترمذي، دار الحديث، القاهرة، طبعة 2005م، (4/318-319). 6. من حديث أحمد في المسند، دار الكتب العلمية، لبنان، ط 1، 2008م، (9/591). 7. رواه أحمد في المسند، ح 18781. 8. إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ص 58. 9. رواه أحمد في المسند، ح 16498. 10. أخرجه البيهقي في" شعب الإيمان"، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة 2، 2008م، (5/266). 11. صحيح البخاري، كتاب الأدب، ح 5604. 12. "الحلية" لأبي نعيم، دار الكتب العلمية، لبنان، الطبعة 3، 2007م، (2/389). 13. رواه الشهاب في مسنده، ح 1474. 14. الحِكم العطائية، دار البصائر، ط1، 2004م، ص96.