انتقل إلى رحمة الله العلامة الأستاذ الفقيه سيدي مصطفى النجار بمنزله بسلا يوم السبت 24 ربيع الثاني 1433 الموافق ل:17 مارس 2012 رحمه الله تعالى وجعل إلى الجنة مصيره، والحديث عن العلامة سيدي مصطفى النجار حديث عن جبل متسع القاعدة، ذاهبة قنته ارتفاعا إلى عنان السماء، أَنَّى للواقف بسفحه أن يدرك بقصير بصره حقيقته. كان رحمه الله مجتمع فضائل: وفاءً، وحياء، حلما وعلما، سهولةَ جانب، ولين عريكة، ووطاءة كنف، وسلامة صدر، ما سمعته يذكر أحدا بسوء، بديع الحفظ، عجيب الاستحضار، ناظما، ناثرا، خطيبا مدرسا، حلو المفاكهة، لطيف المحادثة، حاضر النادرة، جرابا ملء علما، مستحضراً لمسائل النحو على جهة الخصوص، قليل الأكل، حاد الذكاء، صبورا جداً، كنا معه بمكتبه بالمجلس العلمي نَقْرأ عليه وهو صائم فعرضنا عليه عند اقتراب المغرب إيصاله إلى بيته، فكأنه استحلى المجلس، ثم أذن المغرب فعرضنا عليه أن نحضر له شيئا للإفطار فقال: قد أفطرت بالنية. صاحب أوراد وذكر، رطب اللسان بذلك، يحب السماع ويهش له، جامع بين النظافة والثقافة واللطافة، أينما يَمَّمْتَ في شخصيته باحثا عن معنى من هذه المعاني الثلاثة وجدت ذلك فيه ماثلا. يطرب إذا سمع شعرا حسنا، ويحفظ من عيون أشعار العرب الكثير، وقد قيدت عنه كناشة فيها مما سمعتُه من لفظه الجم الوفير. صبور على التدريس لم ينقطع عن ذلك إلى أن لزم بيته بسبب المرض، وأخبرني أنه درس الألفية عشر مرار. كان رحمه الله يدعو إلى إتقان العربية وأن ذلك هو المدخل إلى فهم الشريعة، وكان كثيراً ما يتمثل بقول الشاعر: حفظ اللغات علينا فرض كفرض الصلاة فليس يضبط دين إلا بحفظ اللغات تلمذت على الأستاذ الفقيه سيدي مصطفى النجار رحمه الله تلمذة لها خصوصية، إذ أنها تلمذة مقرونة بصحبة، فيها ما في التلمذة من الإجلال والتوقير، والحرص على اقتناص الفائدة والرغبة في جميل العائدة، وفيها أيضا ما في الصحبة من إسقاط الكلفة واطراح الزّمَاتةِ، والقرب والامتزاج، المبرأ من التصنع والعلاج. وجالسته مرارا رأسا لرأس فكان يتولج بي في مسالك شتى من مسائل علوم، وأحوال رجال، ونوادر أخبار، ومتخير أشعار، هذا مع قراءتي عليه كثيرا لوحدي بعض الكتب، فكنت وأنا معه يشعرني إسقاطا للكلفة كالترب مع تربه، والقرين مع قرينه. عرف الفقيه سيدي مصطفى النجار بصحيح العلم وصريح الوطنية، والكَوْنِ أليفا مألوفا، وهذه الثلاث سبب لهوى الأفئدة وميل القلوب، وآية ذلك أنه اجتمع في جنازته من الناس من كل ضرب، وحجوا إليها من كل لون؛ فكانت مشهودة بعد العهد بمثلها، حضرها من أعيانهم من مذاهب شتى، وطرائق قددا، فمن شئت أن تراه من كل لون رأيته، والناس لا تجتمع إلا على كلمة سواء، والسواء من الكلم محدود، فوا عجبا من ائتلاف المختلف، واتفاق المفترق، وإنما ذلك بسبب سلطان العلم، ورحم الوطنية، وهما يلأمان الصدع، ويوحدان الجمع، ويلمان الشمل، ويردمان الثَّلم، لا يجتمع الناس، إلا على حق، مَضى رحمه الله وقد ملأ الناس عليه الأرض حُسْنَ ثناء، والسماء صالح دعاء، ولم أر لعِظم الأسف عليه مثيلا إلا عِظَم الثناء عليه. وكان الشيخ سيدي مصطفى النجار رحمه الله كثير الميل لسلا وأهلها، عظيم الثناء على علمائها، دائم الذكر لمناقبهم ومآثر نساكها وأعيانها، كثير التقرير أنها لا تنزل رتبة عن فاس وأن علماءها لا ينزلون رتبة عن علماء الحضرة الفاسية، وكان يذكر من متأخريهم مع التعظيم التام الفقيه الجريري شيخ الجماعة، وابن خضراء السلوي قاضي فاس. وكما كان عظيم الثناء على مشايخه، كثير الترويج لمناقبهم، حافظا لعهدهم، ذاكرا لفضلهم ويذكر منهم كثيرا سيدي أحمد بن عبد النبي، وسيدي محمد المريني، وباشا سلا العلامة سيدي محمد الصبيحي وكان يثني عليه كثيرا ويذكر مقروءاته عليه من الحساب والفرائض، وأنهم كان يقرأون عليه في بيته في باكر الصباح، ولا يخرجون حتى يفطروا عنده، وكان يكثر ذكره بهذه السجية من الإكرام. ومما سمعته يذكره عن شيخه سيدي أحمد بن عبد النبي أنه عرض عليه أحد أعيان محبيه أن يبني له بيتا واسعا يرتفق به ويناسب من يغشاه من الناس فقال: لمجاورة المسجد الأعظم بسلا، رؤيتي لصومعته من نافذة البيت -وكانت بغرفة علوي من منزله نافذة تطل على المئذنة- وسماعي للأذان منها خير لي من ذلك وأفضل. وكما كان كثير الذكر لشيوخه والترحم عليهم، واستحضار نوادرهم ،كان أيضا كثير اللهج بمحاسن الفقيه سيدي محمد بن أبي بكر التطواني مثنيا على عبادته يذكر عنه أنه كان صاحب ليل، وأنه كان يقرأ في كل ركعة خمسة أحزاب ثم يركع، كثير المقروء، واسع الإطلاع، وأنه أعطاه يوما إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين للشيخ مرتضى الزبيدي وقال له افتح أي موضع منه ثم سل عما بدا لي. وأخبرني عن الشيخ التطواني قرأ ما وقف عليه من تراث ابن تيمية وابن عربي الحاتمي، وكان يقول هما معا في صدري. أي أنه استطاع أن يؤلف بين فكر الرجلين، ويجمع أي ظاهر مختلف مذهبهما. كما كان يذكر عن سيدي محمد المدني بن الحسني الرباطي من جودة الإلقاء وكثرة المحفوظ العجب العجاب. وأنه كان يحضر عليه بالرباط درسه في السيرة بزاد المعاد لابن القيم. ومن نوادره أنه كان يوما بين العشاءين في الدرس فارتفع صوت المؤذن فقال على البديهة: لو نعطى الخيار لما افترقنا ولكن لاخبار مع الأذان فحول ذلك بديهة من الزمان إلى الأذان ثم ختم المجلس فاستطرف منه ذلك جدا. طلبنا منه أنا وأَخوي الدكتور محمد الناصري، والدكتور الناجي لمين أن ندرس عليه كتابا فوافق لكنه أرجأ تعيين المقروء، ثم اقترح علينا "زهر الأفنان بشرح قصيدة ابن الونان" وهي الشمقمقية المشهورة التي مطلعها: على رسالك حادي الأينق ولا تكلفها بما لم تطق وسردنا عليه جملة وافرة من المجلد الأول، وذلك مناولة مرة في بيت الدكتور الناصيري ومرة في بيت الدكتور الناجي لمين وحضر معنا جملة من المجالس الدكتور إدريس بنضاوية. وذلك بعد صلاة العشاء في يوم الخميس من كل أسبوع. وكنت أحمل النسخة الحجرية من زهرة الأفنان إلى أن نوصله إلى بيته وآخذ منه المفتاح فأفتح له الباب ثم أناوله الكتاب والمفتاح ويدعو لي أو يتحفني بنادرة وأخبرني في إحدى المرات وأنا أودعه عند باب بيته أنه وجماعة من الفضلاء كانوا إذا جمعتهم مناسبة بعد العشاء وكان ضمن الحضور الشيخ محمد بن أبي بكر التطواني كانوا يكرمونه بعد الانصراف بتشيعه إلى بيته، فلما وصلوا وفتح الباب استقبلهم وقال مازحا: باب ما جاء في قول الرجل لأصحابه: مَا سَخَيْنَا بِكُمْ. وكنت أقصده في غير هذا اليوم المعين فقرأت عليه شرح ورقات إمام الحرمين في الأصول، من أوله إلى آخره في نوبات متعددة بسلا في مواضع متفرقة أغلبها بالمجلس العلمي بسلا، ومرة منها ببيتي في زيارة للشيخ لنا مع جماعة من الإخوان. وكان قد أخبرني أنه قرأه قبالة محراب المسجد الأعظم بسلا على شيخه سيدي أحمد بن عبد النبي رحمه الله. وعرضت عليه نظم المثلث، والطرفة للفاسي، وقرأت عليه نحو الثلث من شرح المكودي على الألفية. وحضرت عليه شيئا من رياض الصالحين. قرأت عليه ببيته، وبيتي، وبيت الأستاذ الناصري، وبيت الأستاذ الناجي لمين، وبيت الحاج أحمد بوزيد، وبالمجلس العلمي. وحينما طلبنا منه أن يقرأ منها شرح لامية الأفعال لبحرق وتردد الأمر بين الشرح الصغير والشرح الكبير مال إلى الكبير وتمثل بهذا المثل الدارج: لِّي بْغَا يَشْبَعْ حَضْرَة يَضْرَب فَالْبَنْدِير لَكْبِير كان يذكر أن سلفه من بني النجار من الأنصار وأن أباه كان نجاراً حرفة ونجارا، وأن سلفه نزحوا من الأندلس إلى سلا، وكان شديد الإعجاب بالأندلس حضارة وأدبا. ناولني بعض ما حققه من الكتب كالتسلسل العذب للحضري ونوازل الفقيه الجريري. وكنت إذا سافرت إلى أوربا أزوره بعد الإياب، ويعجبه جدا ما أحدثه به عنها من قيم العلم ومبادئ الحضارة وكنت كلما حدثته من هذا استزاد، ولربما بقيت أكلمه في هذا الساعة وأكثر وهو يسمع بلا ملل ولا كلل. جالسته سنوات لا يكاد يمر أسبوع دون لقاء أو أكثر، وزارنا بالعرائش ودخل بيتي في ربيع الأول ورجب سنة 1428 فمرت تلك الأيام كأنها حلم في الكرى أو لمح بالبصر. لما تقلد مهمة رئاسة المجلس العلمي بسلا نفت في روعه من رُوح العلم فبث فيه حياة ظهر لها أثر جلي، فاستحال مقر المجلس إلى ما يشبه المدرسة، بل صارت مدارس العلم ومعاهد الدرس تشبه مجلس سلا العلمي. واستمر على هذه الخطة الشريفة في إتمام مشروعه الكبير الذي أبلى فيه عمره وقضى فيه حياته وهو محاربة الجهل إلى أن حبسه المرض في سني حياته الأخيرة، فانحبس بذلك علم غرير وأدب كثير ولانحباس ذلك مع شدة الاحتياج كانحباس القطر عن الناس. لقد بدأ بموت الفقيه النجار جيل من الأعلام ينقرض، رحمه الله وحسن لنا فيه العزاء وعوض الأمة ما تفقد من العلماء.