يعتبر علم مقاصد الشريعة الإسلامية من أهم العلوم التي أنتجها الفكر الإسلامي، وهي تعبر عنه أصدق تعبير، ذلك لكونها تفسح المجال أمام خاصية فريدة من النبوغ المعرفي في أصول الفقه. ويعد إمام الحرمين أبو المعالي الجويني صاحب الريادة في هذا الباب، فقد رصع كتابه "البرهان" بجواهر وللآلئ مقاصدية، فتوّجه بالتقسيم الثلاثي لمقاصد الشريعة المتمثل في الضروريات والتحسينيات والحاجيات، ثم أتبع ذلك كله بالإشارة والتلميح والتصريح إلى الضروريات الخمس الأساسية: حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال. إن المتأمل في هذا الإشراق المقاصدي والفتح المعرفي الأصولي الذي يحسب للإمام الجويني يلاحظ أن هذا كله يمكن تفسيره بناء على الأسباب التالية: أولا: تأثره بتربية أبيه الإمام عبد الله بن يوسف الجويني، ثم نشأته العلمية الذي جعلته يحكم الأصول ويسبح بدقة في بحارها العميقة، كأن الرجل كان يخط له منذ بداية مساره العلمي مشروعا علميا يجب تحقيقه؛ ثانيا: نبذه التعصب والفرقة والخلاف والشقاق، خاصة إذا كانت بين من ينسب للعلم ويحسب على أهله، الأمر الذي حمله على ترك موطن نشأته والسفر لمجاورة الحق بعيدا عن الخلق، ولم يعد إلى بلده إلا بعد مضي موجة التعصب وانكسارها؛ ثالثا: ممارسته الإفتاء، ومصاحبته الوزراء، ومناظرته العلماء، ومخالطته لأهل الحل والعقد في الدولة الإسلامية، كل هذا وغيره فتح عقله على فقه الواقع وتنزيل أحكام الشريعة ومنهج التعامل مع المناط -تحقيقا وتخريجا- بلغة علماء الأصول؛ - رابعا: تميز القرن الخامس الهجري الذي عاش فيه الإمام الجويني بنضج المذاهب الفقهية المتعارف عليها تدوينا وتداولا وتنزيلا، الأمر الذي حدّ من التفكير في إنتاج مذاهب فقهية جديدة، مما جعل جل العلماء -وفي مقدمتهم الإمام الجويني- في هذا القرن يميلون إلى مراجعة ومدارسة وتقييم ما سبق من علوم، خاصة في مجال الفقه وأصوله؛ - خامسا: جمع الإمام الجويني طرق المذاهب الفقهية والأصولية وأحسن التمكن منها، مما جعله يبلور أفكاره المقاصدية، إيمانا منه أن من لم يتفطن لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي فليس على بصيرة في وضع الشريعة؛ سادسا: الاستقرار السياسي الذي تميز به عصر إمام الحرمين، والانتصار للمذهب الأشعري، وانتشار النظر الاجتهاد، مكن ذلك كله الإمام الجويني من تعبيد الطريق لبسط نظريته المقاصدية التي أسست لميلاد علم جديد منبثق من رحم علم أصول الفقه، ثم ما لبث بعدئذ أن استوى قائما برجاله ومدارسه ومراجعه منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا؛ سابعا: عاش الإمام الجويني حياته بطريقة المتصوفة السالكين، فتذوق بقلبه وجوارحه طعم ثمرات الإيمان المتمثلة في مقاصد الأوامر والنواهي. وكلما ذاق عرف، ومن عرف استزاد واستكثر واغترف، فجاء برهانه طبقا مقاصديا شهيا يساعد في السير إلى الله عز وجل وطلب مرضاته.. ومن لم يجد شيئا من هذا فعمله مدخول كما قال الإمام ابن تيمية. أخلص في ختام هذه المقالة المقتضبة إلى القول بأنه حري بالأسباب السالفة الذكر أن تنتج عقلا مقاصديا متميزا حقق خطوة مهمة في تاريخ الفكر الإسلامي، وأرسى لبنة أساسية لتعميق النظر الاجتهادي وإعادة قراءة العلوم الإسلامية بمنهج سليم القصد منه استلهام هدي الشريعة الإسلامية في أحكامها وغاياتها وأهدافها بما يتناسب مع قواعدها ومبادئها وأصولها. فلا غرو إذن أن يورد الإمام الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء" عن العلامة الفيروزبادي شهادته في حق إمام الحرمين الجويني قائلا: تمتعوا من هذا الإمام؛ فإنه نزهة هذا الزمان!