إن الأصول الأولى أصول مكية لا توسع في الحظوظ فيها، بل هي مبنية على الأخذ بمكارم الأخلاق فعلا وتركا، إقداما وإحجاما، أما الأصول الثانية فمبنية على الأخذ بالحظوظ الخاصة والعمل بمقتضى الطوارئ العارضة. وفي هذين القسمين يقول الشاطبي: "وإذا نظرت إلى أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله تبين لك فرق ما بين القسمين، وبون ما بين المنزلتين، وكذلك ما يؤثر من شيم الصحابة واتصافهم بمقتضى تلك الأصول، وعلى هذا القمم عول من شهر من أهل التصوف، وبذلك سادوا غيرهم ممن لم يبلغ مبالغهم من الاتصاف بأوصاف الرسول وأصحابه، وأما غيرهم ممن حاز من الدنيا نصيبا فافتقر إلى النظر في هذه الجزئيات والوقائع الدائرة بين الناس في المعاملات والمناكحات، فأجروها بالأصول الأولى على حسب ما استطاعوا، وأجروها بالفروع الثواني حين اضطروا إلى ذلك، فعاملوا ربهم في الجميع ولا يقدر على ذلك إلا الموفق الفذ، وهو كان شأن معاملات الصحابة كما نص عليه أصحاب السير. ولم تزل الأصول يندرس العمل بمقتضاها لكثرة الاشتغال بالدنيا والتفريع فيها، حتى صارت كالنسي المنسي، وصار طالب العمل بها كالغريب المقصي عن أهله"[1]. فالأخذ بالأصل الأول جار على طلب الكمال، ومطلق الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، والسير على منهج الصحابة، ومسلك السلف المتقدمين رضي الله عنهم أجمعين. من حيث السير الروحي والأخذ بأسبابه الظاهرة الخادمة والموصلة لمعرفة الله ونيل رضاه سبحانه. أما الأخذ بالأصل الثاني فهو جار على الأخذ بالحظوظ، وهو لأرباب الحظوظ وهو قاصر عن الأصل الأول في الاستلذاذ، والتنعم بالثمرات الحاصلة بالأصل الأول. لكن "من أخذ بالأصل الأول واستقام فيه كما استقاموا فطوبى له، ومن أخذ بالأصل الثاني فبها ونعمت، وعلى الأول جرى الصوفية الأول، وعلى الثاني جرى من عداهم ممن لم يلتزم ما التزموه، ومن ههنا يفهم شأن المنقطعين إلى الله فيما امتازوا به من نحلتهم المعروفة؛ فإن الذي يظهر لبادئ الرأي منهم أنهم التزموا أمورا لا توجد عند العامة، ولا هي مما يلزمهم شرعا، فيظن الظان أنهم شددوا على أنفسهم، وتكلفوا ما لم يكلفوا، ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة، وحاشا لله ما كانوا ليفعلوا ذلك وقد بنوا نحلهم على اتباع السنة، وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليقة، لكن إذا فهمت حالة المسلمين في التكليف أول الإسلام، ونصوص التنزيل المكي الذي لم ينسخ، وتنزيل أعمالهم عليه، تبين لك أن تلك الطريق سلك هؤلاء، وباتباعها عنوا على وجه لا يضاد المدني المفسر"[2]. ومن هنا فالأصول الأولى والأصول الثانية ليست على وزان واحد، كما أن ثمراتها ليست على وزان واحد، ومن الضروري أن تكون الأصول الثانية تابعة للأصول الأولى من حيث الوسائل والمقاصد على المستوى الكلي، لما كانت مقاصد الأصول الأولى أعظم وأكمل؛ لأنها جارية على الاقتداء التام والكامل بالنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يبين حاجة وافتقار النظر المقاصدي إلى التصوف من حيث إن بناءه على الأصول الأولى لا الثانية. كما ينبني على التمييز بين الأصلين مسألة دقيقة وهي: الثامنة: التمييز بين الفتوى الصوفية والفتوى الفقهية بناء على التقرير المتقدم في مسألة الأصل الأول والأصل الثاني؛ فإن الفتيا لأرباب الأحوال: "اختصت بشيوخ الصوفية؛ لأنهم المباشرون لأرباب هذه الأحوال، وأما الفقهاء فإنما يتكلمون في الغالب مع من كان طالبا لحظه من حيث أثبته الشارع، فلا بد أن يفتيه بمقتضاه، وحدود الحظوظ معلومة في فن الفقه، فلو فرضنا جاء سائلا وحاله ما تقدم لكان على الفقيه أن يفتيه بمقتضاه"[3]. فالصوفي يفتي أرباب الأحوال أي المريدين، أما الفقيه فيفتي أرباب الحظوظ، ومن ليس بأرباب الأحوال. وينجر بنا الحديث عن مسألة متعلقة كذلك بالأصل الأول وهي: التاسعة: مسألة الواجب والحرام عند الصوفية يرى الصوفية أن الحكم تابع لمجرد الاقتضاء، إما اقتضاء الفعل وإما اقتضاء الترك. فلا يوجد فرق في مقتضى الطلب بين واجب ومندوب، ولا بين مكروه ومحرم "وهذا الاعتبار جرى عليه أرباب الأحوال من الصوفية، ومن حذا حذوهم ممن اطرح مطالب الدنيا جملة، وأخذ بالحزم والعزم في سلوك طريق الآخرة، إذ لم يفرقوا بين واجب ومندوب في العمل بهما، ولا بين مكروه ومحرم في ترك العمل بهما، بل ربما أطلق بعضهم على المندوب أنه واجب على السالك، وعلى المكروه أنه محرم"[4]. ولكن الصوفية لا يخالفون جمهور العلماء في تقسيماتهم بل إن نظرهم "راجع إلى مجرد اصطلاح، لا إلى معنى يختلف فيه؛ إذ لا ينكر أصحاب هذا النظر انقسام الأوامر والنواهي -كما يقول الجمهور- بحسب التصور النظري، وإنما أخذوا في نمط آخر وهو أنه لا يليق بمن يقال له: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات، 56]. أن يقوم بغير التعبد وبدل المجهود، في التوجه إلى الواحد المعبود، وإنما النظر في مراتب الأوامر والنواهي يشبه الميل إلى مشاحة العبد لسيده في طلب حقوقه، وهذا غير لائق بمن لا يملك لنفسه شيئا لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ إذ ليس للعبد حق على السيد من حيث هو عبد، بل عليه بدل المجهود، والرب يفعل ما يريد"[5]. العاشرة: مسألة الحكمة وصلتها المقاصدية يتبين أن الحكمة تمثل لب الشريعة وأساسها من حيث إنها نور يستنير به العالم ممن توفرت فيه شروط استمدادها لفهم الشريعة بغاياتها ومقاصدها. يقول الإمام مالك: "إن الحكمة مسحة ملك على قلب العبد. وقال: الحكمة نور يقذفه الله في قلب العبد. وقال أيضا: يقع بقلبي أن الحكمة الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله القلوب من رحمته وفضله، وقد كره مالك كتابة العلم -يريد ما كان نحو الفتاوي- فسئل: ما الذي نصنع؟ فقال: تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم ثم لا تحتاجون إلى الكتاب"[6]. تلك عشرة كاملة من المسائل الكلية والمعالم الإجمالية المبينة للتداخل والتكامل الحاصل بين التصوف ومقاصد الشريعة، ويندرج تحت كل مسألة من المسائل الكلية المتقدمة العديد من الجزئيات الناظمة لكلي المسألة. وعلى الجملة فقد تلخص مما تقدم أمور: الأولى: تبين أن مقامات الدين الإسلامي من إسلام وإيمان وإحسان تجمعها الصلة التكاملية، ومتداخلة تداخلا متشابكا بحيث لا انفكاك فيه، ويجمعها مسمى الدين الإسلامي. ففي حديث جبريل المشهور قوله صلى الله عليه وسلم للصحابة رضوان الله عليهم: "هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم"؛ الثانية: وهي متصلة بالأولى مفادها أن السالك والسائر إلى الله سبحانه وتعالى مطالب بتلك المقامات الثلاثة كلها، ليصح سيره ويستكمل تدينه، بحيث لا يقف عند مقام دون مقام، ولا تصده فهوم دون استكمال تدينه، والاستمداد من نفحات مقام الإحسان؛ الثالثة: لما كان التصوف يختص بمقام الإحسان من الدين الإسلامي، وقد ثبت أن الإحسان هو أعلى مقامات الدين الإسلامي؛ لذلك فإن التصوف يختص بأعلى المقامات، وهو الزاد الدائم للمقاصد، من حيث تبيانه لجزئيات دقيقة من الكليات، كمقاصد المكلف وما يعتريها من ضروب التغير والتلون، ومسألة الإخلاص... الرابعة: تبين في كثير من المسائل المتقدمة أن منزلة التصوف من المقاصد كمنزلة الروح من الجسد، بناء على خاصية الإمداد؛ الخامسة: يتبين من خلال النظر في الدراسات المقاصدية المعاصرة غياب الاستمداد من علم التصوف قصد التجديد في علم الأصول عموما، فلا يبدأ التجديد دون تحقق المجدد بمقامات الدين، كما أن تجديده خصوصا في علم الأصول منوط بمدى تغلغله في التجربة السلوكية قصد استمداد الفهوم الجزئية المساعدة على التجديد في علم الأصول، والدليل على ذلك هو مسألة التمايز بين الأصول الأولى والأصول الثانية؛ السادسة: لما كانت العلوم في الشريعة الإسلامية تؤخذ عن أهلها أي عن المتحققين بها على التمام والكمال؛ فإن تحصيل علم السلوك أو تقول مقام الإحسان، لابد من أخذه عن أهله المتحققين به على التمام والكمال؛ فلكل علم رجاله. ------------------------------------------------------ 1. الموافقات، ج 4، ص: 195. انظر مفهوم التصوف حسب حد الصوفية في عوارف المعارف، ص: 57. 2. نفسه، ج 4، ص: 197. 3. نفسه، ج 4، ص: 198. انظر عوارف المعارف، ص: 163 و 459. 4. نفسه، ج 3، ص: 199. 5. نفسه، ج 3، ص: 203. 6. نفسه، ج 4، ص: 80. انظر عوارف المعارف، ص: 531.