من الشائع في كتب أصول الفقه والعديد من الكتابات المهتمة بالفكر الإسلامي اليوم أن تعريف السنة واضح ولا يطرح أي إشكال. وكثير من الكتب الأصولية القديمة وأغلب الحديثة منها تتبنى التعريف القائل: «السنة ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير». وهذا التعريف هو الشائع بين جماهير المسلمين وهو يجعل جميع ما يصدر هكذا بإطلاق عن النبي المكرم عليه الصلاة والسلام سنة يشرع الاقتداء بها. وبعضهم يدخل في ذلك كثيرا من عادات الأكل واللباس والتصرف التي تجعل الإنسان كأنه يعيش في القرون الأولى من حيث نمط حياته وليس يعيش عصره. ورأينا أن التعريف كما أورده هؤلاء العلماء والكتاب غير سليم، وأن السنة في تعريفها الأصولي ليست مطابقة للأقوال والأفعال والتقريرات النبوية هكذا بإطلاق، بل تتضمن فقط ما هو للاتباع والاقتداء منها. ومن الأدلة على ذلك: 1 أن السنة في الأصل اللغوي تحمل معاني الاستمرارية والعمل المتواصل. ولذلك يشير علماء اللغة إلى أن لفظ (السنة) يطلق في لسان العرب على معان أهمها: السيرة والطريقة والطبيعة والدوام والعادة وكلها تحمل معاني الاستمرار والتوالي والتكرار؛ 2 أن لفظ (السنة) ورد كثيرا في النصوص الشرعية بهذا المعنى اللغوي. ففي القرآن الكريم، يرد في سياق توضيح أن الكون والنفس البشرية وحركة التاريخ وتفاعلات المجتمع البشري، تسير وفق سنن الله ووفق نظامه القانوني المحكم المطرد. مثل قوله تعالى: (سنة الله التي قد خلت من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلا) (الفتح/ 22- 23)، وقوله تعالى: (سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا، ولا تجد لسنتنا تحويلا) (الإسراء/77). فهي الطريقة التي لا تتخلف، والقانون الذي يجري بصورة مطردة لا تتبدل ولا تتحول. ومن ذلك أيضا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا». فالسنة هنا هي التي تصبح أمرا متبعا من التالين؛ 3 أن العديد من الصحابة لا يعتبرون تصرفا نبويا «سنة» إلا إذا كان للاقتداء والاتباع. وقد يصرحون بأن بعض تصرفاته صلى الله عليه وسلم ليست بسنة. فقد قيل، مثلا، لابن عباس: «يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بين الصفا والمروة على بعيره وأن ذلك سنة فقال صدقوا وكذبوا. قلت: وما صدقوا وما كذبوا؟ قال: صدقوا قد طاف رسول الله بين الصفا والمروة على بعيره، وكذبوا ليس بسنة، كان الناس لا يدفعون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يصرفون عنه، فطاف على بعير ليسمعوا كلامه وليروا مكانه ولا تناله أيديهم». وعن عائشة بنت أبي بكر أنها قالت: «نزول الأبطح (أي المكان الذي يجمع فيه الحجاج الحصوات) ليس بسنة، إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج». فهذان النصان الواردان في الصحيحين عن ابن عباس وعائشة يبينان إضافة إلى سيل وافر من النصوص عن الصحابة حول تنوع التصرفات النبوية وعي الصحابة العميق بأن لفظ «السنة» في استعماله الشرعي لا ينطبق على كل ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، بل من ذلك ما لا يعتبر سنة، ولا يدخل في الدين ولا في الشرع اتباعها أو الاقتداء بها. وتمييز الصحابة بين ما هو من التصرفات النبوية للاتباع وما ليس كذلك مشهور. وممن أشار إلى ذلك محمد الطاهر بن عاشور حين قال في كتابه «مقاصد الشريعة»: «وقد كان الصحابة يفرقون بين ما كان من أوامر الرسول صادرا من مقام التشريع وما كان صادرا في غير مقام التشريع وإذا أشكل عليهم أمر سألوا عنه»؛ 4 أن التعاريف الأصلية للسنة النبوية كانت تتضمن هذه المعاني، ولم يبرز التعريف الشائع اليوم إلا بعد القرون الخمسة الأولى، وقد استعمل في البداية لمعنى خاص فانزاح إلى أن أصبح هو التعريف المعتمد. ونورد هنا بعض تلك التعاريف ومن أوردها من العلماء لنعرف مقدار الخلل في ما هو شائع اليوم. التعريف الأول قولهم «السنة ما رسم ليحتذى». وأول من أورده محمد بن الحسن بن فورك (ت 406) في كتابه (الحدود في الأصول). كما أورده العلامة المالكي أبو الوليد الباجي (ت 474 ه) في مواضع من كتبه مثل قوله في «المنتقى» شرح الموطأ: «فمعنى السنة ما رسم ليحتذى، وقد يكون ذلك واجبا وقد يكون ندبا»؛ التعريف الثاني نجده عند أبي بكر الجصاص (ت 370 ه) إذ يقول: «سنة النبي عليه السلام: ما فعله أو قاله ليقتدى به فيه، ويداوم عليه»؛ التعريف الثالث قولهم إن السنة هي «ما أمر به النبي صلى اللّه عليه وسلم ونهى عنه ونَدَب إليه قولا وفِعْلا، مما لم يَنْطق به الكِتابُ العزيز». وقد أورده كل من الخطيب البغدادي (463 ه) في «الفقيه والمتفقه»، وأبو يعلى الفراء (458 ه ) في «العدة في أصول الفقه»؛ التعريف الرابع جمع فيه صاحبه أهم ما تتضمنه التعريفات السابقة. وقد أورده أبو هلال العسكري (395 ه) في معجم الفروق اللغوية فقال: «وإذا قلنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمراد بها طريقته وعادته التي دام عليها وأمر بها فهي في الواجب والنفل وجميع ذلك ينبئ عن رسم تقدم وسبب ورد». وبهذا، يتبين أن تبني الأصوليين للتعريف الشائع بأن السنة هي «ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير» هكذا بإطلاق، أتى في مرحلة تالية، وشاع لأسباب متعددة. فليس من السنة ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة والطبيعة البشرية، مثل محبته أو تفضيله لبعض الأطعمة، فمن لا يحبها لا يسمى مخالفا للسنة. فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب أن يأكل من الشاة ذراعها، ولم يفهم الصحابة ولا المسلمون بعدهم أن ذلك سنة أو تشريع، لأنه أمر يتعلق بذوقه الخاص. وليس من السنة ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم بمقتضى العرف، وذلك مثل عادات الطعام واللباس والركوب التي وجد عليها قومه فتصرف فيها على مقتضى أعرافهم. وليس من السنة ما مستنده الخبرة الإنسانية والتجارب في الشؤون الدنيوية من تجارة أو زراعة أو تنظيم جيش أو تدبير حربي أو وصف دواء لمريض، فهذه أمور بناها صلى الله عليه وسلم على خبرته وتقديره الشخصي. لقد أسهم شيوع التعريف المذكور في انتشار الفهم الظاهري والحرفي لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، مما فتح باب التشدد والغلو في التعامل مع التصرفات النبوية، وأضر بالعقل المسلم وفهمه للدين وتعامله مع الواقع. وأضحى من الضروري تصحيح الخلل بالوعي بأن الأقوال والأفعال والتقريرات النبوية لا تكون سنة إلا إذا صدرت عن الرسول من مقام التشريع. أما إذا صدرت عنه صلى الله عليه وسلم من مقامات غيرها أو بأوصاف مختلفة عنها فإنها لا تسمى سنة. والعديد من مباحث أصول الفقه مرصدة لتوضيح القرائن والضوابط التي تمكن من التعرف على الوجه الذي وردت على أساسه التصرفات النبوية.