هل يمكن أن تفهم مختلف المشاكل الراهنة في البلاد الإسلامية بمعزل عن تاريخ هذه البلاد، والسنن التي تتحكم بسياقها، أو بمعزل عن معرفة سمات الذات والإنسية التي تختص بها، أو بمنأى عن فهم المراجع العقدية والفكرية والمدنية التي تؤمن بها، أو بمنأى عن المبادئ والأهداف التي تراها غاية وجودها واجتهادها..؟ هل يمكن مناقشة حاضر الأمة؛ بتحدياته وأوزاره وتناقضاته، إذا لم نناقش المرجعية والمنهج؟ أو إذا لم نناقش القوانين والآليات التي تحكم مسيرة الوعي والمجتمع والتاريخ؟ إنها الأسئلة المبدئية الكبرى التي تلخص في الحقيقة صميم الإشكال، ومحل الاختلاف الجوهري بين إستراتيجيتين متنافستين حتى اليوم. الأولى: تمتشق سلاح التجريح والهدم ضد القيم المحلية، والمؤسسات الحضارية الخاصة بالأمة بدعوى العولمة، أو بدعوى العلمنة أو العقلنة أو التحديث؛ والثانية: تقوم على رد الاعتبار لتلك القيم والمؤسسات، وتجديدها وتوظيفها في مشروعات "إعادة هندسة الفعل" التاريخي للأمة، واستلهامها وتعزيزها في الثقافة والفكر والممارسة باعتبارها المدخل الطبيعي اللازم لتحقيق إجماع داخلي، وخلق إرادة مجتمعية واعية هي سر جميع النهضات ومبادرات الترشيد والإصلاح. وبحسب المرء أن ينظر إلى ما تمر به المنطقة الإسلامية من تغيرات وانفجارات حتى يدرك الأبعاد المختلفة المعبرة عن تدافع الاتجاهين. وحسبه أن يقرأ ما ينشر اليوم من أدبيات سياسية واجتماعية وإبداعية، ليلحظ مدى استقطاب سؤال المرجعية لمختلف أطراف الرأي السياسي والثقافي، وليدرك أن "أزمة الوعي أو المرجع" هي أشد ما امتحنت به هذه الأمة في تاريخها الحديث. لعل من أهم دلائل هذه الأزمة ومؤشراتها في المجتمع الإسلامي اليوم، غياب الاتفاق على القضايا المصيرية المهمة، والشعور الجماعي بالإحباط، والإحساس بفتور الدوافع والمبررات، واجترار مشاعر القلق، والميل إلى مسالك العزلة والانكماش، والتنصل من كل موقف إيجابي إزاء تحرير الواقع وإعادة ترتيبه، فارتكست الأوضاع بذلك إلى جمود وركود، واتكالية صارخة، وشاعت نزعة من الشك والتسفيه بكل المبادئ والقيم الباعثة على الحياة والأمل. ولعله أيضا من تداعيات هذه الأزمة القابلية للاغتراب، والتقبل النفسي لثقافة الهزيمة التي تزيف الوعي، وتبلبل اللسان، وتعطل الفكر، وتفسد الذوق، وتنهك الروح، بل تتغلغل آثار ثقافة الهزيمة أبعد من ذلك حين تعمق أخاديد الشرخ والخلف بين أبناء المصير الواحد؛ وأبناء الأمة الواحدة، فتنجح في هدم أسس"الوحدة الثقافية"، وترديهم أحزابا متناحرة ومعسكرات منقسمة بين أنصار للأصيل بلا مصير، أو أنصار للمصير بلا أصيل... وليس مبالغة القول: إن التاريخ الثقافي للأمة منذ ما يسمى بعصر "النهضة العربية" يكاد يكون تاريخا لتقلب هذا المشكل وتطوره؛ فمنه حتى اليوم تنبعث كل المواقف التي يحدد كل فرد وكل جماعة وكل تيار من خلالها موقفه من العالم أو من الحضارة أو من الدين أو من الدولة أو من المستقبل. من هنا؛ تتبين ضرورة البدء بالسؤال من أين نبدأ؟ وعلى أي أرض نقف؟ والحاجة إلى استعادة الأمة لوعيها الذاتي؛ لأن ذلك يضعها موضع التناغم مع ذاتها وتطلعاتها. والجماعة كالفرد لا تستطيع أن تبادر إلى مشروع ما دون أن تعرف ذاتها، وتحدد مكان وجودها، وخارطة أدوارها المستقبلية؛ بمعنى لا مناص لها من أن تتسلح قبل كل شيء بوعي ذاتي يكفل لها معرفة حدودها وإمكاناتها وخصائصها وأهدافها ووسائلها وما تريد أن تكون عليه. إن هذا الوعي، كما يقول علماء الاجتماع، أرقى مراتب الوعي؛ وثمرته ومؤداه محاولة فهم القاعدة الحضارية والروحية والقيمية التي ينبني عليها الوعي المجتمعي في البلاد الإسلامية، وثمرته كذلك الوعي الصحيح بالعالم، وبناء علاقات سليمة ومتوازنة مع الغير، إذ الوعي بالذات شرط الوعي بالتاريخ؛ لأنه هو الذي يمنح الأمة الشعور بالاستقلال والتميز عن الآخرين، فتفهم جيدا برامجهم وخططهم ومقاصدهم، وهو الذي سيدفعها دائما إلى استكمال ترتيب "البيت الداخلي" اعتمادا على النفس، واستلهاما للقيم الذاتية المستقلة التي تؤمن بها، فتنبعث فيها دواعي الإنجاز والإجماع والاجتهاد والفعالية.